الثلاثاء، 5 نوفمبر 2013

أليس من ذلك بد ؟!


Not to be produced by Rene Magritte

 تلك الرواية سامة، ربما أغرب رواية في العالم، بما تمتلكه من قدرة على العبث بعقلِ قارئها، وفي الضرر المستديم الذي تخلفه في الشخصية والضمير. رواية "كائن لا تحتمل خفته" لميلان كونديرا تنخر بطريقة جهنمية في الدماغ. يتراكم أثرها الخبيث ببطء سماً زعافاً، لا في مشهد سادي "كيتشي"، كأفلام الرعب الهابطة لشرذمة من المراهقين يذبحون بعضهم بعضاً، أو عنف مباشر بالإمكان تجاوزه بإشاحة النظر أو غلق الصفحة، بل في تدمير مسلمات الوعي الأصلية التي يرتكز عليها كيان القاري؛ الإنساني والأخلاقي أيضاً، هذه الرواية كانت السبب المباشر في انتحار "أروى صالح" صاحبة العمل اليتيم "المبتسرون"، بعد أن تشربت بوعي الكيتش فعجزت عن التعامل مع الحياة، ألقت نفسها من الطابق العاشر. لم يحتمل صدقها الكامل وانسجامها مع مبادئها اكتشاف أن كل ذلك الزخم كان مجرد كيتش لا أكثر، نفاية، وهم مبتذل زائف، فن رخيص، ولما انقشع الوهم فقدت الحياة التي ارتكزت كلية على الوهم معناها وتفككت، فوضعت حدا لحياتها بعد أشهر قليلة من صدور الرواية.

 الكيتش دائرة يملأها الشر والجنون وعدم التسامح، وفقدان التسامح هو وكر الغواية لارتكاب العنف بكل اشكاله الفيزيقية وما وراءها، لا تعود مستعداً لقبول أي تناقض مع الكيتش، إذ لا يعود البشر بالنسبة لك عوالم حية مجبولة على التناقض، بل أشياء تضعها على طاولة "بروكست" التي يحددها الكيتش، تقطع رأس هذا، وتمط رجل ذاك، كي يتلاءما مع طول الطاولة، مع قالب الكيتش، فتصبح أكثر ثقلاً من غطاء رخامي لمقبرة جدرانها اليقين.

 أفسدت الرواية قدرتي على الحكم السليم على هذا العالم، أربكت ما كونته طوال حياتي من إدراك، ابتلعت القوة والاطمئنان بداخلي المرتكزين على حفنة من الأحكام الضميرية المعينة، على وجه التحديد طرحها القاسي للكيتش، وما يتبع انقشاع الوهم من خواء يعقب التخريب الكامل في العقل والشخصية، الكيتش: اللفظ الكابوسي. صدَّرت لي الرواية كامل العجز عن التذوق الإبداعي بفعل ارتباك قدرتي على الحكم لما سببته لي من خلل مدمر جعلني لفترة طويلة من الزمن أقيم كل شيء بتساؤل جوهره "أهو كيتشي أم غير كيتشي؟!"، توهمت أن كل شيء في العالم قد أصبح قالباً كيتشياً وأن كل ما قد يقال قد قيل من قبل فأرى البشر في انفعالاتهم المتشابهة نحو ذات الموضوعات يرجعون إلى أصلهم قطيعاً من الحيوانات القابلة للإيحاء. عجزت عن مشاهدة الأفلام والاستماع إلى الموسيقى بذات الحماس القديم، ثم لم يمض وقت طويل حتى انسحب ذلك العجز على فهم النكتة! عجزت عن التقاط خيط السخرية والكوميديا في الحياة والدراما، موسوم بوسم الجدية والجهامة، حيث الحياة قاسية، لا وقت للضحك. لم أعد أضحك، والعجز عن الضحك صنع مشكلة عنيفة، غير المشكلة الروحية، مشكلة فيزيائية بالتحديد: التغير الحاد في بنية عضلات الوجه بفعل التجهُم والتقطيبة المستمرة اللاشعورية، الأغرب أنَ العجز عن تذوق الجمال والتمتع بالفنون انسحب نهائيا على القراءة حصني وملاذي الأخير فتوقفت نهائيا عنها، لم تعد القراءة متعة، صارت عبئاً ثقيلاً مخيفاً، لم أعد أهتم بالكتب الجديدة ولم تعد الإصدارات الهامة من الأعمال العالمية تعنيني، أما الجرح الذي تركته بداخلي تلك الرواية فنزف في تحول وجودي كامل، تجلّى في القدرة بشكل غامض على العدوان الفيزيائي وارتكاب العنف، اللفظي والمادي، ودون أدنى ندم. كنت قبل أن أقرأ هذه الرواية بالفعل شخصاً يبدو مسالماً، لكن مع ضربة الوعي بمعرفة الكيتش والغوص فيه عبر التأمل المنفرد تكشف لي كيتشي الخاص، السافل الجميل المعذب المخرب، كيتش الحب ومعه كيتش التسامح والسلام، بدأ كيتشي الخاص يتشقق وينهار ومعه بدأت ركائز عالمي تنهدم سريعاً، ولم يكن الهدم سهلاً، الأمر يشبه فقدان الإيمان أو تقشير الجلد وترك الأعصاب مكشوفة كأسلاك كهربية عارية مغروسة في اللحم مباشرة، غير أن الكيتش حين سقط لم يخلف وراءه ذلك الفراغ المطلق المريح، أو ذلك الموات المسالم، بل أسرعت الكراهية من فورها لتحتل الفراغ الذي خلفه وراءه انهيار كيتش الحب، صنعت الكراهية عداوة بين شخصي والجميع، والكراهية تأكل صاحبها في النهاية حتى لا يتبقى منه شيء، أصبحتُ عصبياً وعدوانياً وضيق الصدر وسليط اللسان، وتفننت في خسارة الجميع، أصبحت أفعل ذلك بلا وعي تقريباً، بنوع من نزعة جبر التكرار-حيث يقوم المرء بفعل معين يعرف بعقله أنه يؤذيه ولا يستطيع أن يتوقف، كما في حالة من يجرحون أنفسهم.

 تبدّى لي بعدها بأشهر قليلة الكيتش المفزع الأكثر فداحة في تاريخي الشخصي وتاريخ البشرية: كيتش التمرّد والثورة. الكيتش الذي اعتمدته لسنوات في حياتي منذ سن الثانية عشرة حتى الربع قرن، لحظة؛ بل لحظات كثيرة من الخفة التي تكاد لا تحتمل، ليس أولها التشرد في الطرقات وليس آخرها الثورة على السلطة: سلطة الأب والمعلم والأكاديميا والقانون والمجتمع والدين، الثورة الشخصية التي انتهت بالفشل الذريع، بالضبط كالثورة الكبرى، و لذات السبب وتحت وطأة ذات آليات الفشل، حيث تتحرك الشعوب، الجماهير الغفيرة، بحماس في مواكب هائلة حارة، يقودها الشباب دائماً، تهفو إلى الخلاص من الظلم والقهر والعبودية، سعياً نحو عالم أنظف وأعدل، دون أن تدرك في وهج لحظة خفة الانفعال الثوري التي لا تحتمل أن الثورة تنتهي في كل مرة إلى ذلك التحالف الثقيل الخالد بين الديكتاتورية والبيروقراطية، الثورة: الخفة المُحلّقة التي تكاد ألا تحتمل، ثم البيروقراطية: الثقل النافذ المُميت، الذي ليس منه بُدّ، دولة القانون المزعومة التي تمنعنا من نيل حريتنا، حيث تصبح الدولة بكامل جهازها البيروقراطي مُعادية للفرد، لحريته وكرامته وإنسانيته، كانت البيروقراطية الفرنسية الأقوى نفوذاً بصفتها الأذرع الأخطبوطية للدولة، هي التي أخمدت حركة الطلبة في فرنسا ١٩٦٨ بالتحالف بين قادة النقابات البيروقراطيين والبورجوازيين لإنهاء الحركة الثورية بإلقاء بعض الفتات القليل للطلبة والبروليتاريا، وانتهت الثورة بشكلٍ غامض بعودة العمال المضربين إلى المصانع بالتدريج، ودون سبب واضح، فغضبت الكتلة الثورية ونددت بما حدث مرددة مقولة ليون تروتسكي: أشنقوا آخر بيروقراطي بأمعاء آخر برجوازي.

 بعد فترة، اعتزلت المشهد المتثاقف رسمياً وأصبحت "الناسك"، كانت المأساة من العنف بحيث بدأت تنمو وتتضخم لكن لم يكن مسموحاً لها أن تخرج فجعلتْ تنبعج إلى الداخل لتجرح وتشوه. غمرني شعور بالتخمة جعلني أتوقف عن المضغ والابتلاع، فلماذا آكل والأفكار تخرجُ من الأحشاء، بدأتْ التفاعلات الحارقة لكل هذا الدمار الشامل تطفو قليلاً في صورة نصوص مختلفة المذاق، مطلقة الذاتيّة، نافرة من قضْيَنَة الكتابة، تسامٍ أو عدمية سيّان، سببها الأساسي التوقف نهائيا عن التلقي وموت البهرة بأي شيء وكلّ شيء، مصحوب بنفورٍ موازٍ من "الثورة" منذ اللحظة الأولى كوني أعرف جيداً كيف يكون عنف السقوط إلي الواقع الثقيل بعد عنفوان التحليق، حدث ما توقعته بالضبط: بدأ الكثيرون بعدما انفرط عقد الأحداث في التشقق والانهيار، كثيرون فقدوا أعصابهم وعقولهم وجنّوا بالجملة، لم يحتملوا السقوط المحتّم، ظلت أرواحهم معلقة إلى الأبد في برزخ لحظة الثورة الأولى، يموتون شوقاً لاستعادة لحظة التحليق، غير مصدّقين كونها كيتشاً، وكيف ذلك وقد توحّدوا مع الثورة حتى تجمعت ذواتهم في نقاط كثيفة تدور عبر الزمن حول نقطة واحدة هي لحظة الانفجار، لقد انفجرت الدوامة، فتناثروا ذرات، تاهوا، وللأبد.

 انسحبتْ العدمية الفكرية الجديدة على الحياة كلها فلم أعد معنيّاً بأيّةِ أفكار تستلبُ من وجودي المادي ذرة واحدة ولأحب نفسي أكثر وأنا أتجمل بالأفكار. أمست الأفكار بالنسبة لي كساعة في معصمي، مجرد بضاعة للتباهي، لكني لم أعد مستعد لأن أموت من أجل ساعة المعصم، إنها حتمية المادة أولاً وأخيراً. من اللطيف أن تكون المصطلحات الحضارية المتداولة، تلك الموحية بالخفة والتحرر من تراث ديني ومجتمعي طويل، مجرد ستيكر متداول أنيق يجعل الفرد مقبولا في المجتمع المتحضر، لكن من المستحيل أنْ يكون لهذه الأفكار وجود عميق في حياته وإلا فسيكون التوحد والتماهي المطلق معها مأساة إنسانية شديدة الثقل، لا تعني إلا المزيد من التكريس للمسوخية والتشيؤ، كيتش يختزل الأفراد ويحوّلهم إلى كيانات أيديولوجية بالكامل، إذ يصبح هنا التفاعل الحقيقي مع الحرية نوعاً جديداً من الاستعباد، نوعاً من الثقل سببه محاولة اعادة استيلاد الخفة التي لا تحتمل من قلب الواقع الثقيل، فيها يغدو الفرد أسيراً لوهم في رأسه، يحارب من أجل أطروحات استقطابية ثورية متطرفة ضد الكيتش تُعتبر بذاتها نوعاً من الكيتش. هناك أيضا علكة الديمقراطية التي يتداولها الجميع، باعتبارها الخلاص الوحيد والنهائي للشعوب، والديمقراطية في العصر الحالي تكريس للبيروقراطية والأوليجاركية، أو تكتشف أخطر كيتش في تاريخ البشرية: إنه كيتش التمرد على الكيتش!، الكيتش الذي يدمنه المثقف لاحتياجه المريض إلى إثبات أن "الكل باطل، وأنا نبي هذا الزمان والمخلّص المنتظر"،  فيحاكم العالم بالأيديولوجيا عامداً إلى هدم وتدمير كل ما حوله بهوسٍ يقضي حتى على ذاته، الكيتش يحاصرُنا من كل جانب يتسرب إلينا من كل ثقب في هذا العالم والفرار من الكيتش مسألةٌ كيتشية، أصبحت في أيامي الأخيرة أكثر تسامحاً مع الكيتش أراهُ في جوهره تعبيراً عن كل ما هو جميل وإنساني وساذج وبريء، وهو أيضاً كابوسٌ جاثمٌ مستديم لا حل له إلا الاستئناس والتدجين ومحاولة التعايش والتفهم والاستمتاع بعناصره التي يغلب عليها التحديق في التافه والطفولي والساذج والمبتذل والطريف من الحياة وهو ما تجلى في رفض الثقافة كلية بصفتها قادرة على تدمير المتعة العاطفية البدائية البسيطة.

 في أحد النصوص، تتحدث الراوية عن حالة من العجز الجنسي لدى عشيقها الأديب والمثقف والمفكر، فالمثقف، صاحب الذات الخاوية المتضخمة، يدفعه ارتخاؤه المزمن و الشعور بالقهر والدونية مع امرأته ليس فقط لإنكار عجزه، بل إلى افتعال صورة براقة لذاته أمامها وأمام المجتمع، إنه يحدثها عن الحب دون أن يحب، يدردش حول نظريات فرويد عن الجنس بأكثر مما يمارسه معها فعلياً، لتردد في أعماقها صرخة متحشرجة تنويعة على صراخ المظاهرات "يسقط يسقط سيجموند فرويد". هي في أقصى حالات اليأس ترغب في مظاهرة مدوية داخل ذاتها المحبطة لإسقاط النظرية والتنظير، تتمنى أن تسافر إلى مايوركا، مدينة "إكزوتيك"، كي تمارس الحب مع رجل غير مثقف، غريب، مع رجل تختلف ثقافته عن ثقافتها لا يتحدثان نفس اللغة المشتركة، هذه الرغبة في الفرار التي يصرخ بها النص هي رغبة القاريء المخدوع في العودة إلى عالمٍ "طبيعي"، عالم بلا ثقافة، بلا تنظير، وبلا ألاعيب لغوية أو فكرية، ثم تنتهي الحالة الجاثومية برغبتها الوحشية في قضم قضيب المثقف العنين الغارق في التنظير، الثرثار العاجز عن الفعل، غضباً من محاولاته المريضة ليّ عنق الحقائق وتقديم قراءات مزيفة للتاريخ تخدم ذاته الضيقة وموقفه الشخصي مطلق الانحطاط من الحياة. الراوية في النص هي المعادل الرمزي للمتلقي أو القاريء بينما المثقف العنين هو المعادل الموضوعي للمفكر أو المبدع، وأيضا المعادل الرمزي للخواء و زيف الثقافة وقدرتها على تدمير حياة البشر وافساد عقولهم ونفسياتهم، أما العملية الجنسية فهي المعادل الموضوعي للعملية الابداعية ذاتها تلك التي لا يمكن أن تتم إلا بين مبدع ومتلق، الانتصاب أوالتدفق هو العامل الحاسم في نجاحها، ومهما كانت المرأة إيجابية وفاعلة ومبادرة في ممارسة الجنس فإن العملية في صورتها الطبيعية يستحيل تمامها بغير الدور المحوري للانتصاب الذكري باعتباره المعادل الموضوعي في النص للفعل الابداعي عند الرجل أو المثقف. ينتهي النص نهاية غامضة تتجلى في رغبة المتلقي العارمة في التخلص من سطوة المبدع الإجراميّة على وعيه، غضباً من محاولة الأخير إفساد عقل الأول وأحكامه المنطقية على الأحداث والأشياء والتاريخ، ينتهي بلحظة خفة تكاد ألا تحتمل، تتجمع فيها أبخرة الانتقام والغضب والثورة والقدرة على تجاوز الهواجس الحضارية التي تمنع البشر من ارتكاب جريمة القتل باعتبارها فعلاً مُخالفاً للقانون، يُختتم النص برغبة الراوية في التحرر من المثقف بقتله، القضيب: الرمز التاريخي للسيطرة، للتخلص مرة واحدة وللأبد من الجهل والزيف والفشل والاستعباد والاذلال وتزييف التاريخ والعجز عن الفعل، بكل السوداوية والكابوسية الممكنة، عبر سردٍ جُوّاني مُقبض وقاسٍ وعنيف يستخدم لغة خشنة لا تتردد في السقوط في البذاءة.

 تبلور تأثير الرواية عندي في هجران التنظير نهائياً، اشتغلت بالعمل اليدوي، أصبحت لا أحتمل الأفكار، حتى الأفكار العامة الرائجة مثل الليبرالية و الفيمنستية والباسيفستية، ازدريتها تماماً، بت ذكورياً فاشيستيّاً، ما يرجع أغلبه إلى طبيعة عملي، ألفظ الأفكار المتمردة معتبراً الليبرالية هي التنظير الأكاديمي المهذب للهمجية: "الليبرالية هي الهمجية" ولقد كنت همجياً زمناً طويلاً، هكذا رددتُ بيقين كيتش الذكورة الذي ليس منه بد. الشعور الملح الأقرب إلى الضمير المعذب لازال يدفعني لأن أكتب، لكن بقواعد جديدة شديدة الصرامة أهمها العمى والصمم والخرس للتخلص من الخدر المخيف الذي يبثه الثناء في العروق، الشتائم أمرها سهل، المشكلة الحقة في"التثبيت" الذي يمارسه بسهولة رفاق الكار على بعضهم بعضاً، أمست العدمية مذهبي المريح كما أراها، ثم الجنوح إلى الخشونة في التعبير. أكثر من ذلك كان لهذه الرواية الفضل في كشف وتعرية الكيتش الذي كان يلهث وراؤه المثقف: كيتش "الفخامة المدوية" الكيتش الأرخص والأكثر استهلاكاً وتقزيزاً في التاريخ.

 الآن، عندما يمر شريط لحظات الخفة التي تكاد لا تحتمل، اللحظة التي بدا فيها التغيير لنا، ولأجيال آبائنا، وكما سيبدو لأجيال أبنائنا حلماً حقيقياً واقعياً مطلقاً يافعاً شرساً وجميلاً، ومشجعاً على ارتكاب العنف المجاني وتمزيق القيود والتقاليد وكسر أنف السلطة، اللحظة التي كان الكل فيها على استعداد للمقامرة بوجودهم ذاته قبل أن يضربهم"الواقع" الثقيل بصلفه البارد، أتأمل الصور، وأفكر، فيما كان من الممكن أن يكون، لو استمرت لحظة التحليق التى لا تحتمل هذه إلى الأبد، بغير أنْ يُكبلنا الثقل "الذي ليس منه بد".

الجمعة، 1 نوفمبر 2013

ما وراء الأرق

النوم هبة إلهية، لولاها لاجتاح العالم الجنون.
 ~ يوسف زيدان



 يتربص البؤس بالإنسان أينما كان كظلِّهِ، إنه يلاحقه حتى إلى سريره. الساعة الواحدة ليلاً، أتقلب على هذا الجانب حيناً ثم أتقلب على الجانب الثاني حيناً آخر: لا أشعر بأي إرتياح. ما الذي يجري؟! إنني لا أستطيع أن أنام. ما من فقدان يرعب الإنسان ويثير ذعره ويؤثر فيه مثل فقدانه القدرة على النوم. إنه يرمي بالفرد خارج المجرى الطبيعي للأشياء. كل الأحياء نيام إلا أنت، كل البشر ينعمون بغيبوبة النوم، بينما أنت تراقب التحرك البطيء للثواني والدقائق.

 زمن الأرق زمن صعب: إنه الوضع الذي تجد فيه نفسك في عزلة مطلقة، لا وجود لشيء حقيقي إلا أنت والعدم. تقضي يوماً بطوله وعرضه في مصارعة تفاهات الحياة اليومية، وعندما تأوي إلى فراشك ليلاً تكتشف بأنه لا يرحب بك؛ تحاول التصالح معه بشتى الوسائل لكن لا شيء يجدي: لقد أصبح فراشك عدوك، إنه لم يعد حتى فراشاً، إنه بساط من الأشواك.

 ما هو الأرق؟! إنه شعور ماحق بإطلاقية الوعي والزمن. يذهب المرء إلى فراشه في المساء، وعندما يغادره في الصباح يلاحظ بأن شيئاً لم يتغير. إنه لم يتخلص ولو بمقدار ذرة من متاعبه وهمومه، لقد كانت ليلته استمراراً لثقل نهاره. والحق أنه لا وجود إلا لجنَّة واحدة على هذه الأرض: النوم. اعتبر هذا الأخير غيبوبة مخلَّصة. إنه يحررنا من الوعي الدائم بحضور الذات وحضور العالم. النوم استراحة وجودية ترمم الشروخ التي تحدثها مفاعيل الزمن في ثنايا الروح وجنبات القلب؛ ولولا هذه الاستراحة، التي هي أيضاً شكل من أشكال النسيان، لكانت أدمغتنا قد أصيبت بالتقيح من جراء الوعي المستمر بالزمن وأحداثه. بالنسبة إليّ، في كل مرة تحاصرني الحياة وتضيق بي السبل لا أعود أرغب إلا في شيء واحد: الغرق في بحر من النوم العميق.

 كل شخص يرزح تحت عبء الأرق هو فيلسوف رغماً عنه. ففي كل مرة يهجرني فيها النوم اقضي الليل بتمامه في مراجعة كل القيم. الصمت المطلق الذي يطبق على الكون في الليالي البيضاء يخلق مناخاً ميتافيزيقياً مثالياً للدخول في حوار حقيقي مع الأشياء، حتى الفلسفة، في لحظات كهذه، تنقسم إلى نمطين: الفلسفة التجريدية التي تملأ الكراسات الجامعية، والفلسفة الحية التي تبدأ مع منتصف الليل.

 ما يمكن أن يعانيه الإنسان المؤمن جراء الأرق هو دائماً وأبداً أقل حدة مما يمكن أن يتكبده غير المؤمن. الشخص الأول يتحمل التجربة لأنه ليس وحيداً، إنه برفقة إلهه. لكن الشخص الثاني ملزم بالتحلي بالكثير من الجَلَد؛ فكونه محاصراً بين الاقتناع بفراغ الأرض والاقتناع بفراغ السماء يجعل التجربة التي يمر بها أشبه بعبور الجحيم على انفراد تام، فلا قناعة أرضية تنتشله، وسمائه قد هجرها من فيها.

 في الواقع، لا تخلو تجربة الأرق من بعض الإيحاءات الدينية؛ فكلما وجد المرء نفسه منفياً خارج الصيرورة الكونية إلا وأمسى في حاجة ماسة إلى التحاور مع طرف ما. ولا يملأ وظيفة التحاور هذه إلا إله ما. لكن الإله الذي ينبثق من جوف خواء الأرق لا يتجلى كموضوع إيمان بل كحد وجودي. إنه النقطة التي تتوقف عندها كل قوانا الإدراكية؛ ونحن نعرف، على ما علمتنا التجارب، بأنه هناك دائما نقطة نهاية أو حد؛ ذلك أنه ليس من السهل على الإنسان النظر إلى العدم المطلق.

الاثنين، 7 أكتوبر 2013

صنم الأنا وشهوة التسلط




لا يوجد وهم طوال الحياة سبق للإنسان أن تعلّق به مثلما تعلّق بأناه. ما إن تجلس إلى احدهم، حتى يبدأ في تشغيل تلك الاسطوانة المعتادة: "أنا، أنا، ثم أنا". الإنسان بإمكانه أن يتنازل عن كل شيء، عن ثروته، عن عائلته، وربما عن الكون، لكنه لا يستطيع أن يتخلى قيد أنملة عن ضمير المتكلم. حينما تقول بأن الحياة لا معنى لها وبأن الله مجرد ضرب من الخيال، لن تثير غضب أحد، سيأخذ الكل كلامك على أنه تحليق فلسفي، لكن إن قلت نفس الكلام عن شخص ما، سيعترض عليك بشدة وقد يذهب به الأمر إلى اتخاذ بعض الإجراءات ضدك. هكذا نحن، عندما يتعلق الأمر بالأفكار الكبرى والنظريات العامة نتصرف وكأن الأمر لا يعنينا، لكن عندما تطال هذه الأفكار مجال مشاعرنا النرجسية وخصوصيتنا الفردية، نقيم الدنيا ولا نقعدها. إذا كانت الحياة لا معنى لها، من يمكنه أن يستثني نفسه من شمولية هذا الحكم؟! ، الأنانية عائق فكري يحول بيننا وبين الفهم الكوني. لم تحقق الفلسفات والمذاهب الخلاصية، على مر التاريخ، أي تغلغل حقيقي في المجتمعات البشرية؛ والسبب في ذلك يعود إلى أن الخلاص الذي تقترحه ثمنه تنازل الفرد عن أناه، فالسعادة بالنسبة لهذه الفلسفات لا تتحقق إلا في المجال الذي تنمحي فيه فردانية المرء وتضيع في اللاتمايز الكوني. ولكن من منا سيقبل بسعادة تلزمه بأن ينظر إلى نفسه كنكرة، فيما كبرياء الواحد منا يجبره على عدم التنازل حتى عن اسمه الشخصي؟!، حب الذات وانتفاخ الأنا يولّد العمى أحياناً. نحن لا نكره الآخرين ولا نفهمهم إلاّ لكوننا لا ننظر إلى أنفسنا كما ينظرون هم إلينا. لو تمكن لأحدنا أن يتجرد من أنانيته، للحظة واحدة، وتأمل ذاته من الخارج، لتساقط  لحم وجهه من الخجل، ولربما انتابته الرغبة في الاختفاء عن الأنظار للأبد. كل واحد منا يدعي بأنه يعرف نفسه حق المعرفة، لكن هذه المعرفة لا تكون أبدا بمستوى وضوح وعمق المعرفة التي يكوِّنها الآخرون عنا، إنها نفس المشكلة القديمة: أنانيتنا وعي زائف يقف بيننا وبين الأشياء كما هي.

 بما أن التنازل عن الأنا يعتبر شبه مستحيل ويتبدّى كضرب من الخيال الفلسفي، اقترح أن يقوم الواحد منا، وذلك من حين لآخر، ببعض التمارين للحدّ من الزهو وانتفاخ الذات. وليست هذه التمارين شيئاً آخر سوى أن يتعود المرء على التفرج على ذاته بنفس الطريقة التي يتفرج بها هو نفسه على مسرحية هزلية، وأن يعتبر أي سوء يحصل له كما لو أنه يحصل لشخص غريب لا تجمعه به أية علاقة. يجب أن اعترف بأن أجمل الإشراقات الفلسفية التي عشتها هي تلك اللحظات التي كان يكتسحني فيها الشعور بكوني مجرد شبح، إنها لحظات لا يعود المرء يلمس فيها أي خيط يربط بينه وبين ذاته، هوة سحيقة تفصل الذات عن وعيها الذاتي. في الحقيقة، لا شيء يسبب الإرهاق والضجر أكثر من الوعي المتواصل بالذات، لذا يجب أن نتمرن على اختزال وجودنا إلى الدرجة صفر من الوعي، وأن ننخرط في الوجود انخراط النباتات فيه.



 المجتمع عبارة جحيم من الجَلْد المتبادل؛ الكل يريد أن يتسلط على الكل. دلوني على إنسان واحد لا يُفعِّل ميوله الديكتاتورية!، كل واحد منا يسعى إلى أن يكون الأول في أي تنظيم يقع تحت يديه، سواء كان هذا التنظيم دولة أو طائفة أو قبيلة أو حتى أسرة. من بين مجموع السكان لأي بلد ما، لا يوجد شخص واحد لا يتمنى، على الأقل في لا-شعوره، أن يكون المواطن رقم واحد في بلده. لا أحد منا يكتفي بذاته؛ لا أحد منا يتحمل عدمه الداخلي، الكل يتطلع إلى العالم الخارجي بحثا عن زمرة من العبيد ليصب عليهم جام غضبه و كراهيته، بلا مبالغة الكل عبيد لمن يرفض الخضوع ويلوح دوماً بسوط تسلطه.

 بداخل كل إنسان يرقد ديكتاتور؛ وعندما تتاح له الفرصة لممارسة مواهبه الاستبدادية ينضاف قدْر من الشر إلى العالم. إن الإنسان لا يكون طبيعياً إلا إذا كان في حالة من الضعف والإحتياج؛ وإن كان لكم شك في الأمر، إمنحوا أكثر الناس تواضعاً وأشدهم ورعاً، قدراً من المال والسلطة وسترونه كيف سيتحول إلى فرعون آخر. شهوة السلطة متجذرة في نفس كل واحد منا، ولا ينقص إلا بعض الشروط السياسية والمادية لكي تسقط كل الأقنعة وطلاء الوجوه لتظهر الهوية الحقيقية للطاغية الذي يسكن جنباتنا.

 "حرية، مساواة، إيخاء." هذا شعار جذاب وطموح لكل ثورة تريد أن تتقدم بالمجتمع خطوات إلى الإمام، لكن مثالية هذا الشعار تتناقض على طول الخط مع ما يعنيه مفهوم المجتمع الإنساني في حد ذاته؛ حيث الكراهية المشتركة وما يترتب عنها من قهر وتجبر وتسلط. حاول فقط أن تطبق مكوناً واحد من مكونات هذا الشعار؛ أي حاول أن تكون إنساناً حراً أو أن تكون أخاً للجميع وسترى كيف ستموت من الجوع. المجتمع لا يقبل بالمثل والأخلاق السامية إلا في المواعظ والخطب العصماء؛ لكنه في الواقع لا يعترف إلا بمبدأ هوبس فقط: "الإنسان ذئب للإنسان."

 في الواقع لو قمنا، بطريقة ما، باجتثاث هوى التسلط من قلوب البشر، لربما أدى هذا بالمجتمع والتاريخ إلى أن يفقدا الكثير من ديناميكيتهما؛ فالتاريخ، مثلا، لا يحركه بحث البشر عن العدالة بقدر ما يحركه تعطشهم للسلطة؛ الذين يوجدون في قاعدة المجتمع لا يريدون فقط إقتسام الثروات مع الذين في القمة، بل يريدون كذلك أن يضعوهم تحت تصرفهم لكي يذلوهم ويحتقرونهم، إنه الانتقام الدوري، بنزين كل القلاقل والثورات.

 مفهوم السلطة يسبب الذعر؛ وما يرعب فيه أكثر هو أنه ثاوياً في طبائع كل الأشياء، من حركة الإلكترون إلى حركة كل المذاهب والكتب المقدسة؛ بل يمكنني القول بأنني لا أرى في وجه كل طفل بريء إلا ديكتاتوراً في حالة كمون.

الخميس، 5 سبتمبر 2013

ضجر سيزيف

يوماً ما ستدرك أن السبب الأهم لإعجابك الشديد ببعض الأشياء، هو جهلك التام بتفاصيلها.



 شدة الإدراك أحياناً تبدو لعنة لا تتلاءم والسير الطبيعي للحياة؛ ذلك أنه كلما ازدادت رؤيتنا للأشياء اتساعاًَ، كلما ضاق معها معنى الحياة. من أصغر طفل فينا إلى أكبر فيلسوف. عندما تتولد لدى الطفل فكرة واضحة غير ضبابية عن الميكانيزمات التي تعمل بها لعبته ويبدأ تفكيكها قطعة تلو الأخرى يزول لديه على الفور أي شغف بها. نفس الشيء ينطبق علينا، نحن الكبار، عندما نكتسب معرفة عميقة بالتكتيكات والخيوط التي تحرك هذه اللعبة الكبيرة التي تسمى بالحياة.

حيوان رومانسي

 التأمل المفرط والمطول بمكونات الحياة ومجرياتها يحيلها إلى عدم. لننظر، مثلاً، في الحب: إشراقاته تنافس شطحات المتصوفة وانخطافات الموسيقى؛ إنه يتجلى كأعظم شعور إنسي على الإطلاق، لكنه، في العمق، يخضع لإنقباضات المسالك البولية ومستويات التستوستيرون في الدم. فعندما تتراخى تلك الانقباضات ويضعف تركيز الهرمونات، تخبو فورة الحب ويصبح موضوع اقتراب الجنسين من بعضهما بعضاً غير مفهوم بالمرة. إذن، يكفي القليل من الموضوعية والتجرد ليكتشف المرء بأن كل تلك الحرارة والاحتدام، اللذين يأخذان من السرير مسرحاً لعملياتهما، لم يكونا سوى استراتيجيات بيولوجية لضمان استمرار النوع.

 لا يقع الإنسان في الحب لأنه حيوان رومانسي فقط، بل لأنه يخاف الوحدة. عندما تنظر إلى زوج يعشق بعضهما بعضا، فاعلم أن القصة بينهما تتعلق بكائنين وحيدين يحاول كل واحد منها الذوبان ونسيان ذاته عبر الغرق في ذات الآخر. خواء الوحدة خواء قاتل والاكتفاء بالذات أمر مستحيل، فنحن نحب ذواتنا التي تتجلى من خلال الآخرين؛ لذلك لا يوجد رجل واحد لا يهرع إلى الارتماء في أحضان المرأة. وحده خفقان الأفئدة ينتشل المرء من وطأة الضجر الكوني؛ فيضفي على الوجود بعض المعنى ويؤثث زواياه الفارغة. ولولا الطابع الحزين للوجود لما تجاوز الحب مستوى كونه تمرينا جنسياً؛ فالحب لا يكتسب عمقه إلا من كونه نوعاً من الشفقة المتبادلة. لماذا يجب علي أن أحب شخصاً يسير في الحياة بخطى ثابتة؟! هل هو بالفعل في حاجة إلى دعم الحب ودفء العاطفة؟! المرأة الجميلة والناجحة تثير إعجابي، لكنها لا يمكن أبداً أن تخترق قلبي؛ فكلما كانت المرأة جميلة وتثير اهتمام الآخرين، كلما انغلق قلبي تجاهها. لا أحب المرأة إلا إذا كانت وحيدة أو كانت من أولئك اللواتي دهستهن الحياة وظلمتهن الطبيعة بمنحهن وجوهاً لا تتمتع بالسيمترية والجمال المؤسسي الفاقع، فأصبحن يعشن على هامش دائرة الرجال والآخرين. الحب إما أن يكون ممارسة عزائية أو لا يكون. فقط عندما نمارسه لأجل مواساة الآخر ومسح دموعه؛ يتفوق الحب عندئذ على تكتيكات الطبيعة وميول الجنس، فيتوج نفسه أحياناً بالتضحية والإيثار وهذه هي أكثر التفكيكات الموضوعية للحب.

***

 العقل يفضح ألاعيب الحياة ويعريها. ولو افترضنا أننا كائنات عاقلة إطلاقاً، لكنا قد قدمنا استقالتنا من العالم منذ بدء الخليقة. وإذا كنا لا نزال لحد الآن نملأ هذا الكوكب لغطاً وضجيجاً، فالفضل في ذلك يعود إلى حرارة الرغبة وعماء إرادة الحياة؛ بدونهما يصبح القلب الإنساني مجرد عضو أجوف لا يثير إلا اهتمام الأطباء. إذن، فما يدفع المرء إلى التحيز إلى هذا الطرف أو ذاك لا يعود إلى ذكائه أو ثقافته بقدر ما يعود إلى شغفه أو تعلقه بالموضوع؛ فالشغف هو الذي يطمس شكوك العقل ويدفع تحفظاته العدمية، ويُمكِّننا من الاندماج مرة أخرى في حماقات القطيع. وهكذا، فالواحد منا لا يمكن أن يكون عاشقاً وفيلسوفاً في نفس الآن؛ ذلك أن تفكيكات العين الفاحصة لا تتلاءم و هيامات القلب النابض. الذي يحب لا يتساءل أبداً لماذا يحب، والذي ينغمس في مشروع ما لا يتوقف أبداً ليتفكر في دلالة معنى ما يقوم به: فحالما يبدأ المرء في تأمل حبه لهذا الشيء أو ذاك، يجد نفسه وقد قذف به خارج التجربة ويصبح موضوعه كتأمل دواة حبر فارغة، إنه لم يعد عاشقاً على الإطلاق، لقد أصبح، الآن، محلّلا نفسانياً. هذا إذاً، هو الحب: أطروحة مضادة للمعرفة ومولِّد لأكبر الأكاذيب التي شهدها التاريخ البشري. وكل خطوة إلى الأمام في الحب تساوي خطوة إلى الوراء على مستوى النزاهة الفكرية والحياد الواقعي.

 من وجهة نظر موضوعية، لا يوجد خير ولا شر، لا جمال ولا قبح؛ والذي يتمكن من التعالي عن المذاهب والإيديولوجيات والتجرد من الأهواء والأحكام المسبقة سيرى الأشياء كما هي في حد ذاتها-شديدة التجريد؛ أي العراء التام والبساطة الكاملة. التعدد الذي يطبع العالم والتراتبية التي تحكم أوصاله ما هي إلا أوهام تعشش في العقول الضيقة وأشباح تسيطر على القلوب الضعيفة. يكفي فقط أن يعلّق المرء حماسه لبعض الوقت وسيرى بأم عينه كيف سيتفكك أمامه العالم وستهوى معظم الأشياء إلى السفح بجنون، وكيف سيتساوى الشيطان مع الملاك، والباطل مع الحق، والعدم مع الوجود. باختصار، كلما تأمل المرء الأشياء بقلب جاف وأعصاب باردة سيظهر له العالم في حقيقته الخفية: مستوى مسطح بل عمق وبلا ارتفاع.

 لا يحسم اختياراته في هذا العالم إلا المتعامي أو الذي لم يسبر غور الأمور جيداً. من ينظر مليّاً في كل الأوجه الممكنة لأمر من أمور الحياة، لابد وأن يصاب بالجمود؛ سيظهر له بأنه ليس هناك توجه أفضل من توجه آخر، أو اختيار أصوب من اختيار ثان، كل شيء متماثل؛ هكذا سيكون استنتاجه الأخير وهو ينظر إلى العالم في شموليته. بصره الثاقب يجرّد الظواهر من كل ادعاء بالواقعية، ويفضح الصورة الحقيقية للحياة: أنها بالنسبة له، مجرد مملكة من الأشباح.

 كل إنسان يبدأ الحياة بالشغف ثم ينهيها بالشعور بالضجر. بمجرد ما يخطو المرء أولى خطواته في هذا العالم تترسخ لديه القناعة بأن هذه الحياة معين لا ينضب من الفرص والإمكانات؛ ولكنه حالما يبدأ يتعمق تدريجياً في الأشياء، تأخذ رياح الضجر في الهبوب، وتبدأ قناعة أخرى تلوح في الأفق: لا فرق جوهري بين الفعل واللافعل، بين السطح والعمق. منذ طفولتي، وإلى الآن، وتجربتي مع الزمن تجري بين الانغماس التام أو الانتظار المميت. لازلت أذكر كيف كنت أشغل نفسي بنشاط طفولي، ولكن ما كانت تمر ساعات قليلة حتى كان يجتاحني الإحساس بالخواء فأرمي بكل شيء جانباً وأنزوي في مكان ما منتظراً أن تحصل معجزة أو شيء كذلك. كانت هذه أول تجربة لي مع الضجر، وكان هذا هو أول شعور فلسفي لدي بخواء الأشياء.

 فيما مضى كنت اعتقد بأن البؤس مشكلة اقتصادية، لكنني عندما أنظر، الآن، جيداً في وجوه أبناء الطبقات الميسورة تتكون لدي القناعة بأن البؤس الإنساني هو أعمق بكثير مما نعتقد. عندما تنظر جيداً في تلك الوجوه تجدها تقول لك بأنها جرَّبت كل رغبة، وأشبعت كل نزوة، وبأنها تملك كل شيء إلا حلاً لمشكلة الضجر. والحق أن من يبحث عن حل لمشكلة الضجر كمن يبحث عن حل لمشكلة الوجود في حد ذاته. في هذه الأيام، عندما تشتكي من الضجر أمام الناس، تجدهم ينظرون إليك بعين الريبة معتقدين أن ما تحس به من ضجر مرده إلى كونك إنساناً كسولاً أو لأن حياتك اليومية تفتقر إلى التنظيم والبرمجة. ولكن الضجر الذي يجتاحني في كل يوم وليلة لا علاقة له بأي واحد من هذه الأسباب؛ إنه ليس بذلك الضجر الذي يمكن أن تقضي عليه بالانخراط في عمل جاد أو نشاط مسل؛ إنه ضجر يمتد لشهور وسنوات، ضجر عميق.

 أحياناً، أكون منغمساً حتى الأذنين في نشاط خلاق، أو مجتمعاً ببعض الأصدقاء، أو أكون متأملاً لمنظر طبيعي، وفجأة أبدأ استشعر نوعاً من الخواء يتسلل إلى روحي، إنه خواء ينزع عن الأشياء من حولك كل معنى وجاذبية فجوة عدمية تبتلع كل معنى للوجود؛ فتختزل، بذلك، قيمة الوجود إلى مستوى الصفر، ولا يعود عندئذ يهمك أي شيء آخر إلا إيجاد إجابة لسؤال: "ما المغزى من وجودي هنا في هذا العالم؟!". مَر عليّ زمن كنت أجاري فيه الحياة في كل شيء، كنت أتأرجح بين هذه الرغبة وتلك، وأقفز من نزوة إلى أخرى، ولم أكن أعرف حتى بأن للضجر وجوداً. وكيف كان لي أن اعرف بوجوده وأنا لم أنزل إلى أعماق الأشياء بعد ؟! إن الأشخاص الذين لا يضجرون هم بشكل بسيط مجرد أطفال مازالوا غارقين في البعد المادي للوجود ولم يبرحوا سطح الأشياء بعد.

 أستطيع أن أقيس اليقظة الفلسفية لكل رجل من خلال موقفه من مشكلة الضجر؛ فكلما كان الرجل يعتبر الضجر معطى وجودياً لا فكاك منه، كلما أثبت بأنه رجل قد خَبَرَ الأشياء وعرف طبيعة الأمور. ولكن أغلب بني الإنسان لا يتفاجئون من شيء آخر أكثر من تفاجئهم من وجود الضجر؛ إنهم لا يكفُّون في سلوكياتهم وأدبياتهم عن النظر إليه كخطأ في نمط العيش؛ فتراهم بذلك يهرولون لفعل أي شيء لتفاديه أو حتى قطع دابره. ولكن موقفاً كهذا من الضجر ينم عن سذاجة ميتافيزيقية وأحكام مسبقة تتجلى في اعتقادنا بأن للحياة مضموناً أو معنى ما، فيما الحياة، على ما تبدي لنا التجارب، لا تتضمن أي معنى ولا تسير نحو أية وجهة. وعندما أشير إلى الحياة، فإنني أعني بها هذا التدفق الجارف من الرغبات الفوَّارة والدوافع العمياء التي تتابع وفق إيقاع سريع لا يترك للإنسان أي لحظة ليسترجع أنفاسه؛ فلا يخرج هذا الأخير من غمار رغبة ما حتى يجد نفسه ملزماً بخوض غمار رغبة أخرى؛ ذلك أنه لا أحد يستطيع أن يقيم في الفراغ الفاصل بين الدوافع والميول، إنه فراغ قاتل ولا تتحمله إلا نفوس قليلة.



 في إيقاع وجودي كهذا، لا يمكن للمرء إلا أن يكون حيواناً بائساً يعيش حياة تأرجح لا يهدأ. تأرجح بين دفع الأهواء وجاذبية الأشياء من حوله؛ وحالما يهدأ كل هوى وتنطفئ كل رغبة يسقط  في الفراغ المطلق للضجر.
 ما من شك في أن كل إنسان يدب على هذه الأرض إلا وقد مر بتلك اللحظات التي يتوقف فيها كل شيء عن الحركة ويخضع العالم لجمود رهيب، وما من امرئ إلا ويعرف شيئاً عن تلك الطريقة التي يتجلى بها الزمن في أيام العطلات والجمعة أو ما بعد الظهيرة؛ فخلال لحظات زمنية كهذه، وهي نماذج مناسبة للتأمل والانعكاس على الذات، يستشعر على نحو شديد: الثقل الماحق للانهائية الزمن، ويسمع على نحو حاد التكتكة البطيئة لعقارب الساعة؛ إنني اتحدث هنا عن زمن يطبعه الضجر ويلفُّه الخواء وتنتفخ فيه كل ثانية إلى أن تصبح حدثاً مستقلاً بذاته؛ أما الدقائق والساعات فتصبح مسرحاً لأهوال وعذابات لا تطاق.

حينما تتجمد الدقائق والساعات، ولا تعود الأيام تتقدم بأكثر من سرعة السلحفاة، كيف لا يمكن عندئذ للوجود أن لا يفقد كل معنى ومصداقية؟! وكيف، إذاً، لا يمكن للمرء أن يتساءل عن المغزى من كل هذا الركض وراء المثل والأهداف؟! وما الفائدة من البحث في هذا العالم عن كل تشكّل أو تغيير؟! إن هذه الأسئلة الحارقة هي ما يمثل الجانب الميتافيزيقي من الضجر، والإنطراح المفاجئ لها يكشف عن بعد آخر للحياة ما كنا لنستشعره من قبل: بُعدها السيزيفي. في بعد كهذا، يصبح الانتقال من يوم لآخر عملاً عبودياً لا يحتمل، أما الحياة فتصبح دورة طويلة من الانتظار العبثي. هذا ما يمكن أن يختبره المرء في واضح النهار، أما عندما تغزوك مثل هذه الأحاسيس والأسئلة بالليل؛ حيث يكون المرء بمنأى عن صخب العالم وضوضاء البشر، فإن فعل الوجود في حد ذاته يأخذ بعدا مزدوجاً يلامس فيه الشعور بالعجز عن مواصلة الانخراط في سخافات الحياة والإحساس بالعزلة المطلقة والتيه اللانهائي. إن المرء، هاهنا، ليجد نفسه وجها لوجه مع الزمن في صيغته الجافة، بحيث لم يعد على الإطلاق بذلك الفضاء المؤثث بالأهواء والمكاسب والطموحات، إنه لم يعد إلا حالة من الفراغ المطلق مطعَّمة بمشاعر اليأس والإحباط.

 لطالما عرَّفنا الإنسان بأنه حيوان صانع، ولكن الإنسان لا يكون صانعا إلا لأنه يتوهم بأن لهذا العالم وجوداً حقيقياً، إذ يكفيه فقط أن يحافظ على مسافة بينه وبين أشيائه ليرى بطلانها التام. إنه كائن حبيس أهوائه وتصوراته، ولو تسنى له أن يُعلِّق ميوله ونزواته لبعض الوقت، لكان بإمكانه أن يرى كيف سيتحول كل شيء إلى جماد. إن الحياة بكل مقوماتها الحسية والجمالية ما هي إلا نتاج لإفراطات الخيال وهذيانات الروح وتوترات الجسد. فقط تعطيل مؤقت لغرائزنا يحول الحياة إلى حكاية ضاربة في الضجر غارسة في الملل؛ وبدون حرارة الليبيدو يصبح العالم صقيعاً مطلقاً. وهذه هي قصتنا مع الحياة التي لا نتحملها إلا بقدر ما تفرزه قلوبنا وعقولنا من أشكال الشغف والهلوسة.

 الوجود عارِِ، والإنسان لا يمكنه أن يستمر بدون مكاسب مادية أو طموحات مستقبلية؛ فهذه الأخيرة هي ما يشكل ديكور الحياة. ويكفي القليل من اليقظة الأنطولوجية ليستيقظ المرء من سباته الميتافيزيقي فيطلع على وضعه الوجودي الحقيقي: العراء. ولهذا السبب، لا تجد إنساناً واحداً على وجه هذه الأرض لا يعانق فكرة أو مثالاً ما. فنحن نؤمن بالعالم الخارجي حتى ننسى عالمنا الداخلي، أي ذواتنا. هكذا تجدنا ننغمس في الأعمال ونكرس كل جهودنا وطاقاتنا في تشييد الصروح وإقامة الآلهة، وكل هذا لأجل شيء واحد: قتل الوقت.

 لا شيء أثقل على قلب الإنسان من عطلة مطلقة يعيشها بلا متع ولا تسليات ولا حتى بعض المشاكل والمشاغل؛ وإن كان لكلمة الجحيم من معنى فهو عندما تفقد الحياة تأثيرها الإيروتيكي فتتحول إلى أرض جدباء يدب عليها كائن فارغ من كل هوى واندهاش. ولأجل هذه الاعتبارات، أجد نفسي دائما منجذباً إلى معشر الكسالى والعاطلين؛ فهؤلاء يعرفون أسراراً وجودية لا يعرفها المنشغلون من أصحاب الجهد والكد أو المخدَّرون بالمطامح والمطامع. فكونهم لا يتوفرون على وظيفة يشغلونها وتشغلهم، تجدهم يدخلون في حوار مباشر مع الأشياء؛ وهذا يمكّنهم من تأمل التدفق الرتيب للزمن والانشغال المرضي لأشباههم من البشر بشئون الحياة. من بين بني الإنسان جميعاً، وحده الشخص الكسول الذي لا يزال بريئاً؛ فإحجامه عن فعل كل خير أو شر، ورفضه الانغماس في غيبوبة الحياة العملية، يوفر عليه التورط في جريمة قتل الوقت أو الهروب من مواجهة الذات. وموقفه الفلسفي،هذا، من الأشياء مكنه من تبوأ مكانة المتفرج الكوني على سخافات البشر، وجعله المراقب الأعلى لتمظهرات الخواء واللاّجدوى في حياة كل واحد منا.




 إذا كان أصحاب الفلسفة الوجودية يعتبرون الضجر كوعي بالانفصال الجارح للكائن عن كيانه، فإن النسّاك والزهاد من أباء الصحراء كانوا يعتبرونه الطريق التي تؤدي مباشرة نحو الشيطان. ففي الوقت الذي يكون الناسك يقضي فيه دورة الزمن بين صوم بالنهار وصلاة بالليل، كانت بين الحين و الآخر تتسلل إلى قلبه أحاسيس وهواجس يمتزج فيها الكلل بالملل، والإحباط وعدم الرضى باليأس، ولطالما صورنا الناسك في لوحاتنا الفنية ينظر من نافذة صومعته إلى العالم الخارجي وكأنه يترقب مجيء أحدهم. إنها لحظات شك يُسائل فيها الناسك مغزى عزلته في قلب الصحراء؛ وهي أيضا لحظات غواية، فالإسكندرية بصخبها ومفاتنها لا تبعد عنه إلا مسافة يوم سيراً على الأقدام.




 في الحقيقة نحن لا نستمر في الحياة إلا بقدر ما يوجد في عيوننا من الغبار؛ ذلك أن التبصّر المطلق يفصلنا عنا وما حولنا والمجتمع؛ فنحن كلما تعمقنا في غياهب النفس وأسرار القلب، كلما قل عدد أولئك الذين يمكن أن نتواصل معهم؛ كما أن السير الطبيعي للحياة لا يمكن أن يتم بدون حد أدنى من العفوية و اللاوعي. وهنا يظهر جليّا الطابع الدرامي لحياة كل إنسان يتمتع بقدر كبير من الصحو الفكري و نفاذ البصيرة: إنه إنسان لا يستطيع أن يندمج في الحياة على نحو ما يقوم به باقي البشر؛ موضوعيته المطلقة ترغمه على البقاء على هامش الوجود؛ نظره المنفصل لا يفرق بين حديقة من الأزهار وحقل من الأشواك؛ ذهنه المتوقد يمنعه من التحيز إلى أي طرف من أطراف المجتمع، وكيف سيتحيز وهو لا يقلب فكرة في العطاء أو التضحية أو الاستشهاد إلاّ ليجد تحتها الزهو أو الأنانية أو التعطش للمجد والسلطة؟!، إنه مشبع بوعي كيتشي نافذ الثقل.

 لا شك أن إنساناً كهذا لديه ترسانة معرفية كبيرة تجعله متحرراً من كل الأوهام والأهواء والقيود؛ لكن تحرره هذا لم يحصل عليه إلا بعد أن هدم كل أصنامه وانهار كل شيء من حوله، إنه حر، لكنه في صحراء قاحلة ينازع الخواء والعراء وحيداً.

*اسطورة سيزيف 

الجمعة، 23 أغسطس 2013

سفر الوحدة

كل من حولك غرقوا في الثرثرة الجالبة للتثاؤب والملل، وأنت وحدك من توحدت مع اللحظة، لحظة الاكتشاف، فوحدك فقط من تعرفك جيداً، أنت من تعرف أين تركت المقص في المرة الأخيرة، أين ألقيت الكتاب الذي كنت تقرأه مؤخراً، أين رميت جوربك المتسخ بعد عودتك منهكاً من الخارج. وحدك من ستستحم دون الحاجة لغلق باب الحمام. من ستصون خيالك وأنت ترسم لوحة لن يرها غيرك. سـتَألف شرودك، ويتحول جنونك إلى صديق حميم يعرف هو ايضاً أنه صديق حميم؛ فيجيب أسئلتك بانكشاف قاتل قتلاً رحيماً. وحدك لن تعيبك النظرات اللائمة إذا ما تذكرت ميلودراميتك، حينها ستصير مضحكة بعض الشيء. ستجيد الاحتفاء بتفاصيلك الخاصة فيصبح نومك احتفالاً يومياً مُفاجئاً، وحدك ستعيد اكتشاف العالم مرة أخرى وتتسع حدقاتك؛ فأنت الان تعرف أكثر، وإذا لم تندهش لا تجزع كثيراً، فأنت تعرف بدقة أين تركت المقص في المرة الأخيرة.




 حينما يدفعني الوجود لأكون برفقة نظرائي من البشر، فإن إحساسي بالوحدة يصبح مضاعفاً. عندما انخرط في حوار مع أحدهم يتولد لدي شعور بالأسى على كوني لا أعيش في الصحراء أو كوني لا أتمتع بسكون الجمادات. حضور الآخرين غالباً لا يخلق من حولي إلا الفراغ والإحساس بالتفاهة المطلقة. هم يحبون المال ويتعلقون بالمجد ويقدسون التَسلُّط، وأنا اكره المال وأزدري المجد وأتفادى كل أشكال السلطة. لا يمكنني أبداً أن أحب المال، فتحصيل آخر جنيه يتطلب حد أدنى من العهر والتزلف. وأما بالنسبة للمجد والسلطة، فإنني لم ارغب يوماً في أن أكون الرجل الأول في أي تجمع ديني أو سياسي؛ فلكي يكون المرء نبياً أو زعيماً سيتطلب منه ذلك الكثير من الغرور وجنون العظمة. ولكي يحكم رجل جماعة من عشر رجال لابد له من أن يضع رؤوس ثلاثة منهم تحت المقصلة أولاً.

 -كيف تعرف بأنك على حق؟!
 -المعيار بسيط للغاية: عندما تتعارض شكوكك وهواجسك مع يقينيات القطيع. والحقيقة لم تكن أبداً ظاهرة جماهيرية، كما أن العوام لا يستسيغون إلا ما هو مبتذل وسطحي ورخيص. وإذا كان هناك من شيء أتحسر عليه فهو تلك الساعات التي قضيتها برفقة نظرائي من البشر؛ لو حدث أنني كنت قد كرست كل تلك الساعات للاستبطان والتأمل لكنت الآن اقرب إلى الحقيقة أكثر من أي وقت مضى.

 كل امرئ يولد ويُقدَّم على طبق من الطهارة والبراءة، لكن الخوف والذعر من الوحدة والضجر يدفعان المرء دائماً إلى الارتماء في أحضان الجموع، والنتيجة هي فقدان البراءة الأصلية، مع ما يتبعه من فساد وتورط بفعل طفح الآخرين عليه. لم يسبق لي أبداً أن التقيت بإنسان يتحمل عزلته؛ فالكل يفعل المستحيل للالتحاق بأي مجمع بشري ما. قد يكون هذا المجمع شلة من الأصدقاء، أو حزباً سياسياً، أو طائفة دينية، أو حتى عصابة إجرامية. في الواقع؛ على المرء ألا يكرس وقته لشيء آخر غير ذاته، فالواحد منا لا يدخل في حوار عميق مع الحقيقة إلا عندما يكون بمنأى عن صخب العالم وضجيج العوام وزحامهم.



 لا تتجلى لي الدلالة الحقيقية للأشياء إلا عندما أكون خارج دائرة الوجود البشري. عندما أكون في جولة مسائية على أحد الشواطئ، أو أمشي بلا هدف في أرض جرداء؛ ابدأ في مراجعة كل القيم البشرية واحدة تلو الأخرى: كل ما هو عظيم في أعين القطيع يغدو تافهاً وسطحياً أمام الصمت الأبدي للصخور والحركة التلقائية للموج. وكلما فكرت في وضعي بين الأشياء، في تصوراتي للعالم، وفي الأحكام التي قد يطلقها عليّ الآخرون، أقول لنفسي: فيما تهمني استقامة هذا العالم أو اعوجاجه؟! ولماذا يجب أن أكثرت لأراء البشر في كل حال؟! إذا كانوا ينظرون إلي كعدمي أو كمجذِّف مهرطق، فما الذي ستغيره أحكامهم تلك؟! أوليس كل شيء يأخذ مساره المحتوم؟! وهذه الشجرة الواقفة هناك مند عقود، ما الذي يمكن أن يجمعها ببني البشر وأحكامهم القيمية؟! وهذه الصخور المتكئة هنا منذ ملايين السنين، فيماذا يمكن أن تهمها قيم المجد والنجاح والشرف؟! في الحقيقة، لا وجود للحكمة إلا بجوار الجمادات، صمتها السرمدي وموقفها اللا-إكثراتي من حركة العالم يفضحان بلبلة المدن وذعرها اللامعقول، ويظهران ضجيج المجتمعات كضجيج مجاني ومن أجل لا شيء.



 يقولون لنا بأن الإنسان حيوان اجتماعي، ولكن لا يعتبر هذا صحيحاً إلا على مستوى السطح فقط، أما في العمق فالإنسان حيوان وحيد، فكل واحد منا هو في حد ذاته كيان مغلق يسكن هذا العالم؛ كحبة رمل على شاطئ كوني لا احد يعرف أين يبدأ ولا أين ينتهي. وهذا بالفعل هو الشعور الأصيل بالوحدة، والذي يتمثل في الإحساس بالعزلة المزدوجة للكائن. عزلة الإنسان في العالم وعزلة العالم في الكون وعزلة الكون في الميتا-أكوان.

 فيما يخصني، لا يمكنني إلا أن أقول بأن حياتي كانت تطبعها الوحدة منذ البداية؛ فمنذ اليوم الأول الذي اكتسبت فيه وعيي بذاتي وأنا أحس بأنه ثمة هوة سحيقة تفصل بيني وبين العالم، لم أكن أرى في المجتمع من حولي إلا مملكة من الغرباء. حتى أبي لم أكن أرى فيه إلا غريباً لابد منه. وباختصار، كان الوجود في مجموعه يمثل بالنسبة إلي بنية في الوحشة والغموض. لقد كان لقائي منذ البداية مع الوجود صعباً، ملغزاً، غريباً، محفوفاً بالمخاطر. وفي الحقيقة ليس ثمة أي شيء فلسفي بخصوص انطباعاتي هذه؛ فهي لم تنبثق لا عن تأمل ولا عن تفكر، بل كل ذلك كان نتيجة لشعور واحد فقط: الوحدة. وحدة كائن مايكروسكوبي أمام الامتدادات المطلقة للكوزموس.

 المجتمع زنزانة لا مفر منها والوحدة المطلقة تقتل. لذلك يجب أن نكون عمليين: أي أن يضع الشخص رأسه في هذه ويديه في تلك. نحن نجتمع لتوفير الغذاء والكساء وضروريات البقاء بيولوجياً، ولكننا ننعزل ونتوحد حتى نتمكن من الإنصات لأصوت ذواتنا. وإن كان هذا التباين يكشف عن شيء، فإنما يكشف عن أن الاجتماع ينبثق عن ميول قطيعية بحتة، بينما العزلة والتوحد سلوك نخبوي بامتياز. وفي الحقيقة، لست أبالغ إن قلت بأنه لا داعي أن يتكبد احدنا عناء خلق جسور للتواصل مع المجتمع؛ فهذا الأخير لا يحكمه إلا منطق المنفعة الشخصية ويحركه جين أناني، إنه أشبه بسوق مؤقتة أو مخيم للاجئين.

 ليست الوحدة في أحد أوجهها إلا تلك الضريبة التي ندفعها ثمناً لرفضناً الانغماس في هذا التآمر المتبادل الذي يسمى بالمجتمع. يمكنني أن أقول بأنه باستثناء بعض الأشخاص، الذين يمكن أن أعدّهم على رؤوس أصابع اليد الواحدة، لا تفعل البقية من البشر شيئاً آخر سوى تعميق شعوري بالغربة، لم يحصل أبداً أن شعرت بالوحدة القاتلة مثلما كنت اشعر بها عندما أكون في صالون ما أو عندما أدعى إلى حفلة أحدهم. وباستثناء الهرولة بين سطور الكتب وبعض الموسيقى، لم أكن أجد في هذا العالم من وسيلة أخرى للتخفيف من وحدتي إلا تلك الحوارات التي كنت أجريها من حين لآخر مع حفنة من المتفلسفين ورعاة الغنم. والحق أن الحياة لا تصبح محتملة إلا بالقرب من التوقد الذهني لهؤلاء والصفاء الروحي لأولئك.

 كان يحدث لي أحيانا أنني كنت أنزوي منعزلاً لأيام وأيام في غرفتي، اقضي وقتي منغمساً في كتاب ما أو متوحداً مع مقطوعة موسيقية، وعندما كنت انزل إلى شوارع المدينة كانت أول رغبة تستهويني هي أن ألوي راجعاً إلى حجرتي وانغمس في عزلتي من جديد، بل و على نحو أعمق. العالم الخارجي تافه، فبدلاً من أن يضع عنك أعبائك، تجده يعرض عليك أعباء أخرى؛ وفي كل مرة كان يقترب مني أحدهم كنت، وحتى احمي نفسي من سخافاته، ألجأ على الفور إلى إستراتيجية القنفذ وانطوي على نفسي بالكامل وأغلق كل المنافذ.

 عندما يتعلق الأمر بكل ما هو جوهري وروحي، لا يكون لدى العالم الخارجي أي شيء يقدمه لنا، إنه عالم يعج بالأوهام والمهرجين الذين يتراقصون على أحبال النفاق مرة وتارة أخرى على أحبال التجمل؛ ولذلك يكون من الجيد أن ينسحب منه المرء كلما سنحت له الفرصة و على قدر ما يستطيع. كل واحد منا يحلم بأن يقوم ذات يوم بجولة حول العالم، ولكن أليس العالم الحقيقي هو هذا العالم الجواني المتواري خلف جدار النفس؟! فعندما يتقادم الوجود في عيني المرء وتفقد كل مباهج الحياة بريقها، وتصبح كل الميول والملذات أشياء مبتذلة ومستهلكة، ألا يكون من الأجدى للمرء أن يحوِّل نظره عن الآخرين حتى يرى نفسه؛ وأن يتنحى جانباً على هامش الوجود حتى يقترب من مركز ذاته؟! وحدها العزلة تمكّننا من لحظات ميتافيزيقية كهذه.

 لا شيء يثير الشفقة أكثر من الطريقة التي يعالج بها البشر وقوعهم في الوحدة؛ فعندما تكتسحهم هذه الأخيرة تجدهم ينتشرون في الأرض بحثاً عن وسيلة للهو، ولكن للهو ثمنه الباهظ الذي يتمثل في التلهي، أي التولي عن الذات والهروب من مواجهتها. والخوف من هذا التولي والهروب هو ما يرن في رأسي في كل مرة تهزني نزوة النزول إلى العالم والاجتماع بأشباهي من البشر. والحق أنه عندما يجد المرء نفسه متشوقاً للانغماس في العالم أو الالتحاق بالآخرين، فإنما يثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن العالم أكبر منه، وبأنه هو والآخرين من نفس الطينة. ذلك أن معظم مآسي البشر تأتي من أنه لا احد يعرف كيف ينزوي في غرفته ويتحمل وحدته.



 كل تجربة عميقة نمر بها هي في جوهرها تجربة دينية، وبالرغم من أن أخصّائيي التحليل النفسي لا ينفكون يختزلون مشكلة الوحدة في تعقيدات لا شعورية أو أعطاب في العلاقات الاجتماعية، إلا أن الوحدة في عمقها هي أكثر من كونها كذلك، إنها مشكلة يتداخل فيها الديني بالمرضي، والوجودي بالميتافيزيقي. ويمكنني أن أقول بأن الإحساس بالوحدة أو الإقدام على الانسحاب من ضجة المجتمع لا ينبثق إلا عن حدس ديني عميق مفاده أن هذا العالم عالم غير مُقِْنع وغير عقلاني.
 يُحسد المؤمن على ذلك الإمتياز الميتافيزيقي الذي تتمتع به الصلاة، والذي يتمثل في قدرته على أن يتخلص من كل أعبائه عبر تعليقها على مشجب إله ما! عندما ينسحق تحت عجلات الواقع الغير مبالية الحياة وتصد في وجهه كل الأبواب، لا يجد المؤمن من مخرج نهائي لأزمته أفضل من الصلاة؛ حسبه فقط أن يجثو على ركبتيه وأن يرفع كفوف الضراعة إلى إله ما. حتى الوثني يمتلك نفس هذا الامتياز في أن يعرض مآسيه على مطلق ما، ولا يهم أن يكون هذا المطلق من الحجر أو الشجر؛ إنه كائن حزين، وهذا كاف لوحده بأن يجعله متديناً.
 في العمق، نحن لا نصلي لأننا مؤمنون، بل لأننا متعبون ونريد أن نستريح؛ فالرغبة في طرح أثقال الحياة عن كاهلنا هي ما يبرر وجود الصلاة؛ والتي لولا الطابع العبودي للوجود لما كان لها من معنى. أي شخص يعيش في رغد لا يمكنه أبداً أن يستوعب مغزى الصلاة؛ وما الذي سيدفعه إليها ما دام لا يرزح تحت أي عبئ. وحدهم المثقلون بالأحزان والمثخنون بالجراح من يملأون المساجد والكنائس ويترددون على المعابد. كلما ضاقت بالمرء الحياة وهزمته تدابير الأيام سيجد نفسه على حافة الصلاة، حتى وإن كان ملحداً؛ فالصلاة ليست فعلا تعبدياً إلا في المظهر، أما في العمق فهي ممارسة طبية، ترياق ضد سموم الحياة. فعندما ينخرط المرء في الصلاة يخفف عنه بذلك قسوة القدر ومرارة الفشل؛ كما أن الطابع الحواري للصلاة، أي تجليها كحوار بين الإنسان والإله، يوحي للمرء بأنه ليس وحيداً في الكون.


الاثنين، 5 أغسطس 2013

سرير بروكوست


تقول الأسطورة الإغريقية أنه كان هناك مجرم وقاطع طريق يدعى "بروكوست" يملك سريراً، كان يصيد الأشخاص ويأمرهم بالنوم على السرير فإذا كان الشخص طوله مناسب لطول السرير نجا، وإن كان أقصر من طول السرير يقوم بروكوست بتمديد وشد ساقيه كي يتناسب مع طول السرير، وإن كان أطول من السرير يقوم بروكوست بقطع أطرافه ليلائم طول السرير.

 معظم الأفكار في حد ذاتها هي ضرب من الخيال أو التجريد أو على الأقل يجب أن تبقى كذلك. لكن الإنسان عندما يقع تحت إغراء وغواية فكرة ما، تجده يغذيها بكل مشاعره وأحاسيسه، ويسخِّر لها كل طاقاته البلاغية والشعرية، فيحولها على إثر ذلك من كونها مجرد انطباع إلى جنون ميتافيزيقي متكامل تقام له المعاهد والمعابد، وتحميه مراكز المخابرات والشرطة. والحق أن الإنسان كائن وثني بطبيعته؛ فهو لا ينفك يؤله أي شيء يخرج من بين يديه، حتى وإن تشدق بعلمانيته فإن هذا الإنسان لا ينقطع البتة مع ميوله التأليهية. عشقه للأحلام والأساطير يدفعه دائماً إلى إضفاء صفة الإطلاق والألوهية على أي شيء يحظى باهتمامه ويدغدغ إعجابه، بل يمكن القول بأن هذا العشق هو المحرك الحقيقي للتاريخ الذي بدوره ليس سوى تعاقباً زمنياً لمختلف أنماط التأليه والوثنية. ميل الإنسان إلى عبادة أشيائه وأفكاره هو المسؤول عن كل الجرائم التي وقعت على مر التاريخ، فمن يعبد عجلاً أو إلهاً ما يدعو الآخرين إلى عبادته أيضاً، ومن يرفض الانصياع لدعوته، ما عليه إلا أن يستعد لمواجهة حرب مقدسة قادمة. هكذا هو الشخص المتطرف، إنه يتماهى مع عقيدته إلى الحد الذي لن يترك فيه أي مسافة بينه وبينها، بل إنه لا يكاد يرى أي شيء خارجها. بالنسبة له، ينقسم العالم إلى معسكرين: معسكر الإخوة في العقيدة ومعسكر الشيطان. دوجمائيته تطرد عنه كل شك وتجعله لا يتردد في قتل الآخرين أو في قتل نفسه، إنه في كلتا الحالتين إما مستبد وإما قتيل أو شهيد، إذن فهو خطير.

 كل عقيدة بطريقة أو بأخرى هي تمهيد ومقدمة على الورق لإرتكاب العنف والفظاعة. وإجراءات كالحرق أو الرجم أو قطع الرؤوس بالمقصلة لم نلجأ إليها لأننا وحشيون أو ظلاميون، بل لأننا وثوقيون. كل من يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة هو بالضرورة شخص اضطهادي وغير متسامح، وفي كل مرة يلتقي فيها تصوره بتصور آخر مضاد، يسيل الدم. ولأنه لا يقبل بالطابع النسبي للرؤى والأفكار، فإن ذلك يجعله يرى في التسامح والحوار ضرباً من التساهل والتهاون في إحقاق الحق وتأدية الواجب.

 المتطرفون هم محركو التاريخ، و كل شعب لا يرى في نفسه شعباً مختاراً لن يترك أبداً بصماته على أرضية التاريخ. هل يمكن تصور العصور الوسطى بدون حروب دينية أو محاكم تفتيش؟! وكيف كان للقرن العشرين أن يكون ممكناً بدون مجنون كهتلر أو ديكتاتور كستالين؟! لا تتسامح الشعوب فيما بينها إلا بسبب توازن الرعب، أما الأديان فلا يعترف بعضها بالبعض إلا بعدما ينهكها ويدميها العراك. والحق أن كل ديانة لا تقوم إلا على خراب ديانة أخرى. المسيحية مثلاً؛ لم تزدهر إلا على حساب الفلسفة اليونانية والوثنية الرومانية. عندما تتبنى دوجما ما دينية أو سياسية قيم الحب والسلام تنهار قواها على الفور، فبعدها الإنساني يولّد الانشقاقات الداخلية، ويسمح بتكاثر المرتدين والهراطقة، كما يعطي فرصة لاندساس الأعداء. مكيافيللي على حق: "ثمة أمان كثير في أن يخشاك الناس من أن يحبوك." إن النظم السياسية والدينية لا تستمر في الوجود إلا بقدر ما تفرز من الرعب والخشية، وما دامت تلجأ إلى الإقصاء والاضطهاد والعقاب وتحيط الجميع بدائرة ملؤها الشر واللاتسامح، فهذا دليل على أنها مازالت قوية. أما عندما تتبنى هذه النظم فلسفة الحوار وتسعى إلى بناء جسور التفاهم والصداقة مع العدو والمختلف، فإن ذلك إشعار ببداية عصر انحطاطها. إنها نفس القصة القديمة: كل إله وأيدولوجيا لا نُمَثلُ أو نُقتل من أجله فهو إله ميت أو بالأحرى هو إله يقع على الهامش بعيداً عن مجرى الأحداث.

 لكل عقيدة وأيديولجيا مقصلتها؛ وكلما كانت هذه الأيديولوجيا قوية كلما كانت وحشية. والأنظمة لا تفرض نفسها بالمنطق وقوة الحجة، بل بعدد الضحايا الذين تهشم رؤوسهم أو تحرقهم أو تزج بهم في السجون. إن الشراسة هي ما يمدد الطريق أمام كل أمة تتقدم في التاريخ. ولكن مراجعة دقيقة لهذا الأخير تؤكد بأن كل أحداثه لا تنبع إلا من تعصب البشر لقناعاتهم ومن التقدير المفرط الذي يولونه لنظمهم الدينية والسياسية. عندما أسمع أحدهم يتحدث عن "نهضة الأمة" أو "إحياء الماضي المجيد" أو يستعمل كلمة"نحن"، أبتعد عنه قدر ما أستطيع وأفر منه فرار المرء من الجذام. إنني لا أرى فيه إلا ديكتاتوراً مؤجَّلاً أو جلاداً ينتظر فرصته.

 في الواقع، عندما يفقد الإنسان مَلَكَة الشك كمقولة برتراند راسل: "أنا لست مستعداً أن أموت في سبيل أفكاري لأنها قد تتغير."، يقع في شباك أول إله أو شيطان يقابله على قارعة الطريق. الشعور بالضجر والرغبة في التشويق واستجلاب الشغف، الذي تفرزه أحداث التاريخ، يدفعان المرء إلى التحمس لأي فكرة قد تدغدغ أنانيته ونرجسيته، أو قد تنسيه محنة الحياة عبر الإيحاء له بعالم مثالي متواجد في الماضي أو سيتواجد مستقبلاً. وكلما اشتدت وطأة وضجر الحياة على المرء، كلما ازداد تعصبه للمبدأ الذي يؤمن به. لذلك لا يجب أبداً أن نبحث عن طريق للحوار مع كل شخص يؤلِّه عقيدته، إنه مأخوذ بجاذبية عوالم أخرى، إذن فهو لا يرى ولا يسمع وسيضع كل من يخالفه على سرير بروكوست.

 كل متطرف هو عابد صنم؛ تعصبه لفكرته يحوّلها إلى إله، ويحوله هو إلى قاتل ضمني، وفي الواقع لا توجد في التاريخ ولو مهزلة دامية واحدة لم ترتكب باسم إله ما. وإذا كان هذا الإله يسمى تارة بالحقيقة وتارة أخرى بالتنوير أو العدالة، فإن النتيجة تكون دائماً واحدة؛ خراب ودمار، أشلاء ودماء. شخصياً أشعر بالأمان أمام مسئول حكومي فاسد أكثر منه بالقرب من شخص يتعصب لمبدأ ما، بل أرى بأنه لكي يكتسب المرء مناعة ضد داء التطرف وأمراض الحياة، عليه أن يفتح بين الحين والآخر كتب السوفسطائيين وممتهينين الكلام؛ فهم على الأقل كانوا صريحين مع أنفسهم ومع الآخرين، لم يكونوا يدرِّسون "الحكمة" إلا من أجل جني المال. و أما الحقيقة فلم تكن تعني لهم إلا بناءا من الدهاء والصور مسرفة البلاغة. و ماذا عن الفضيلة؟! إنها ليست من تخصصهم؛ يجدر بك أن تبحث عنها في يوتوبيا أفلاطون أو تلميذه أرسطو.

الجمعة، 2 أغسطس 2013

الكائن الأكثر تطرفاً

الإنسان هو أحد أخطاء الطبيعة. هذه قناعة ربما توصلت إليها حينما كنت أتسكع مع صديق لي في أحد السهوب المجاورة للقرية التي وُلدَ بها أجدادنا؛ ونحن نتبادل أطراف الحديث، أشار صديقي إلى واقع أن مجموعة من الأنواع الحيوانية، التي كانت تعيش هنا في يوم ما، قد انقرضت ولم يعد لها أي أثر. وتعليقاً على ملاحظة صديقي، قلت له بأن كل ما يتحرك تحت ضوء الشمس سيختفي إلى غير رجعة، وسيأتي يوم سنتحدث فيه عن انقراض آخر ذبابة؛ فالإنسان حيوان مبدِد مبيد ولديه نزعة مَرضية لجعل هذا العالم عالما قبيحا. فهو لا يقطف إلا ما هو أخاذ وجميل، و لا يترك إلا ما هو شائك وقبيح، خالقاً بذلك وجوداً لا بقاء فيه إلا لما هو ضارب في السوء والبشاعة.

 كل المخلوقات تعيش في انسجام تام مع الطبيعة باستثناء الإنسان وحده. فعلى مَر التاريخ أثبت هذا الكائن بأنه الأكثر تطرفاً، حيوان شاذ ولا يملك موقعاً مريحاً بين جموع الخلائق. إنه لا يكف؛ في أي نشاط من نشاطاته، عن التلويث وتشبيع الأجواء بشتى أنواع السموم والغبار. إذا جلست أمام الشاشة الفضية-شاشة تأخذك إلى جهنم-أو فتحت جريدة لن تجد إلا ذلك التغني شديد الابتذال بالحضارة الصناعية والتقدم في صراع التكنولوجيا؛ وأنا أتساءل هنا، بأي حضارة وبأي تقدم هذا الذي يمكننا التغني به ونحن لم يعد بإمكاننا ملء بالونات صدورنا إلا بالغبار!، إنني لا أكاد أرى أي خير في كل هذه القرون التي قضاها الإنسان في التصنيع والتركيب. فإذا ما رغب أحدنا في رؤية زهرة برية، فعليه أن يتحمل مشقة الخروج من العمارة التي يقطنها لمسافة سبعين كيلومترا أو أكثر؛ أما إذا كان يرغب في مشاهدة قنفذ أو أرنب فعليه أن يتوجه إلى محبس الحيوانات.

 إثر كل ذهاب أقوم به لمتحف أو حديقة حيوانات أستنتج بأن قسوة الإنسان لا يحدها شيء. كل هذه الأسود والغزلان والتماسيح والطيور التي أراها الآن؛ كانت تعيش حرة طليقة لملايين السنين، إلى أن جاء هذا الإنسان فطاردها بكل السُبل، وجعل من كل نوع منها إما مصدراً لطعامه، أو مادة لكسوته، أو وسيلة لتسليته هو ونسله. لقد لاحق الإنسان هذه المخلوقات في كل منحنيات الأرض، وما وُجد عرين أو غار أو جحر إلا ووصل إليه. ولمَّا رأى هذا الإنسان بأن ما بقي من هذه المخلوقات يسير نحو الانقراض، وذلك بسبب ما ألحقه بها من أبشع الأنواع قتلاً وتنكيلاً، وضعها في أقفاص كئيبة تتغذى على أطعمة فاسدة ويتفرج عليها الفضوليون ومطاردو وسائل التسلية. أفهم جيداً أن يفترس حيوان ما حيوانا آخر، و لكنني لا أستطيع أن استوعب كيف يمكن لحيوان أن يجعل من حيوان آخر موضوع فرجة أو احتقار أو إذلال!، وهذا بالضبط ما فعله الإنسان بباقي المخلوقات من حوله. ماذا أقول؟!، الإنسان بلا مبالغة هو ديكتاتور الحيوانات.

 لو كان باستطاعتي التحكم في دواليب الكون، لكنت قد مسحت الإنسان من على وجه الأرض. فمنذ البدء أثبت هذا الكائن بأنه لا يحسن إلاَّ الانفصال. لقد أمره إلهه بأن يلزم المكان المخصص له في الجنة، وحذَّره من أنه ثمة حدود لا يجب عليه أن يتجاوزها؛ ولكن الإنسان، وكعادته، يهوى تجاوز الحدود وخرق العهود فأكل من الشجرة المحرمة وكان ذلك أول إنفصال له، إنفصاله عن إلهه. ولكن إنفصالات الإنسان لا تنتهي؛ فها نحن نشهد اليوم وفي كل ساعة وحين انفصاله عن الطبيعة وذلك بسبب ما يلحقه بها من خراب ودمار إلى درجة أنه ارتفعت أصوات تطالب بكتابة عقد طبيعي مع الأرض. الإنسان كائن مرفوض، إنه لا ينفك يُطرد من فردوس تلو الآخر، إنه كائن غير مرغوب فيه.

 الإنسان حيوان يتمحور حول أناه، وعندما يطلق له العنان يتحول العالم إلى ورشة عمل للشيطان. هذا بالضبط ما فعلته أغلب الأنساق الماورائية التي عرفها تاريخنا والتي عملت على تكريس غرور الإنسان و صلافته. وقد كانت المسيحية أول ميتافيزيقا أنذرت نفسها لهذه المهمة حيث عملت على التبشير بأن الإنسان خُلق على صورة الله؛ وبأن هذا الأخير قد تجسد فعلاً، في يوم من الأيام، في صورة إنسان وعاش مع الإنسان ومات من أجل الإنسان. ثم جاءت الحركة الإنسية التي جعلت من الإنسان "مقياس كل شيء." وهكذا توالت الأوهام بين ميتافيزيقا تقول بأن الإنسان طيب في عمقه، وأخرى تقول بأنه خليفة الله في أرضه، وثالثة تقول لك "دعه يعمل، دعه يمر." والحق أنه مهما اختلفت هذه الأنساق الميتافيزيقية في مفاهيمها وزواياها، فإنها تلتقي عند النتيجة نفسها والتي تتمثل في أنها أنزلت الإنسان منزلة لا تتناسب وقدراته؛ بل ويمكنني القول بأن النجاح السياسي والهيمنة التاريخية لهذه الأنساق، بنوعيها أللائكي العلماني والثيولوجي المقدس، لا يعود إلى انسجام في مقولاتها ولا إلى قوة في أيديولوجياتها، ولا حتى إلى فكرة الجحيم أو فكرة الخلاص؛ بل نجاح كل ذلك يعود إلى شيء واحد، وهو أن هذه الأنساق قد تملقت الإنسان ودغدغت ميوله النرجسية وجعلت ذاته شديدة الانتفاخ.

 منذ أن وعى الإنسان وهو لا يطمح إلا لشيء واحد وهو احتلال مركز كل الأشياء. والحق أن كل البشر يتصرفون كما لو أنهم آلهة، فأنى توجهت فتجد آلهة بائسة أو أنبياء مقموعون، فيما هم مجرد حيوانات عليا يقتلون ويتقاتلون على ظهر هذا الكوكب السيء الحظ، والذي غالبا ما ينسون بأنه مجرد كرة معلقة في الفراغ الكوني المطلق. وحده داروين فهم ما يجري؛ لقد رأى في الإنسان مجرد قرد متطور يتربع، الآن، على قمة هرم المخلوقات. ولقد كان بإمكان هذا القرد الأعلى أن يعيش في سلام تام مع نفسه ومع الطبيعة، ولكنه حيوان مصاب بهوس التقدم؛ إنه لا يكاد يصل إلى وضع حضاري حتى تبدأ الرغبة تراوده في تجاوزه إلى وضع حضاري آخر. ومن إرادة التجاوز هذه وُلد الإنسان فتحول بذلك من كائن يعيش في الطبيعة إلى كائن يُنصِّب نفسه سيداً عليها. والحق أنه حيثما تولي وجهك لن ترى إلا هذا الكائن وهو يغزو كل شبر ويكدس الأموال ويستنزف ما يقابله.

 كل ما يصنعه الإنسان لا يلبث أن يرتدَ ضده. إنه لا يستفيد من أشيائه إلا مؤقتاً، أما على المدى البعيد فإن كل ما يخرج من بين يديه يصبح مصدر إزعاج أو خطر. لقد اخترع هذا الكائن السيارة ليختزل المسافات ويسابق الزمن، وها هي هذه السيارة قد أصبحت تشكِّل في مدنه عاملا يعرقل الحركة و مصدراً لشتى أنواع الضوضاء. لا أكاد استوعب كيف أنه بعد كل هذه القرون من الرياضيات العليا والميكانيكا المعقدة انتهى بنا الأمر إلى خلق حضارة مفادها الضجيج والقذارة. ولا اعرف أي تقدم هذا الذي أحرزناه وقد أصبح الواحد منا لا يعبر شارعاً ثانوياً إلا بعد أن تتوتر أعصابه ويتصبب عرقه؟، والحق أنه عندما أرى هذه الأجواء الملبَدة بالدخان وهذه الوحوش الحديدية التي تجوب شوارع مدننا وتدهس، من حين لآخر، بعض الأرواح البريئة، لا أتحسر إلاَّ على شيء واحد كوني لم أُوجد قبل الثورة الصناعية أو لم أُوجد من الأصل.

 مع كل صرخة وليد يزداد الشر قليلاً في العالم. وإذا كان هناك من شيء أتأسف لحاله فهو هذا الكوكب الأزرق الذي يحمل على ظهره هذه التخمة من بني البشر؛ والذين لا يختلفون عن بعضهم البعض إلا بقدر ما يفرز كل واحد منهم من الخراب والكارثة. لقد توصلت إلى قناعة مفادها أنه علينا أن نعمل على تكريس حركة إنسية معكوسة تتمثل في وضع حد لهذا الإنسان وتمريغ كبريائه في التراب. إنه لمن الضروري أن نُفهم هذا الكائن بأنه مجرد ترتيب حيوي في المنظومة الطبيعية للأشياء. وبأنه ملزم-إن أراد الاستمرار-بأن يتخلى عن أخلاق السوبرمان ويتبنى عوضاً عن ذلك، أخلاقاً مغايرة تستمد جوهرها من تواضع حشرات الأرض وعفوية العشب. على هذا الكائن أن يفهم بأنه ليس ابن السماء، بل ابن الأرض. والحق أنه رغم ما قد ينطوي عليه هذا الإذلال، الذي ندعو إليه، من مضاعفات جانبية، فإن مخاطره ستكون أقل بكثير من المخاطر التي قد تنجم عن تمجيد الإنسان أو عبادته؛ فالإنسان حيوان مغرور ومصاب بخيلاء لا علاج لها، على سبيل الطرافة، لفت صديقي نظري إلى التكوين المورفولوجي للحيوانات؛ فكلها تدب على ظهر الأرض إما زاحفة أو ماشية على أربع، حتى الديناصورات رغم ضخامتها وقوتها تبدو منحنية و محتشمة؛ لكن وحده الإنسان يملك وضعاً مورفولوجياً عمودياً، لقد بدأت المأساة لحظة استقامته.

 إذا كانت اليوتوبيا لاتزال تعني لي شيئاً، فإنها تعني أن تستولي قلة من المثقفين على الحكم في هذا العالم، فتؤسس بذلك دكتاتورية شمولية تقوم بالسهر على حماية الطبيعة ولجم اندفاعات الإنسان. والحق أنه أصبح من المُلح علينا، وأكثر من أي وقت مضى، بأن ندمر هذا العجل الذهبي الذي يعبده معاصرونا والذي يتمثل في مجتمع الوفرة، إننا ملزمون بأن نعود إلى قيمنا البدائية، وبأن يتم إرجاع مستويات العيش إلى ما كانت عليه في العصور الوسطى. كما انه من الضروري العمل على تحويل التناسل عند البشر من إمكان طبيعي مفتوح إلى إمتياز حضاري لا يمنح إلا للمتفوقين. فمن يطَّلع على المعدلات الديموغرافية لبني البشر، خاصةً تلك المتعلقة بالبؤساء والأغبياء منهم، لا يمكنه إلا أن يستنتج بأن الإنسان درن ينتشر.



 هذه الصورة ليست من مخيلة أحد مخرجي السينما المتشائمين، لكنها من أحدى مسيرات الإنسان السياسية، الأمر لا يعنيني سياسياَ أكثر منه أخلاقياً، هم يطالبون في مسيرتهم بحقهم في حكم وقيادة مجتمع بأكمله وفي الوقت نفسه يجرّون ورائهم مجموعة من الأطفال لا شيء في عقولهم سوى بعض المشاهد الكرتونية، يسيرون بهم بعد أن البسوهم أكفان وعباءات الموت كشيء رمزي للتضحية بحياتهم من أجل أيديولوجيا طوباوية تسببت قديماً في الخراب أكثر من أي شيء آخر متوهَم. من المفارقات شديدة السخرية أن من ينوي امتلاك دراجة بخارية تافهة يجب عليه الحصول على رخصة لقيادتها بعد اختباره والتأكد من أهليته للقيام بذلك، وهؤلاء السائرون لم يختبر أحد أهليتهم لإنجاب إنسان آخر على وجه الحياة، ولم يحاسبهم أحد أيضاً لتجدجينهم هؤلاء الاطفال ذوو العقول النيئة للمطالبة بأشياء لا يعلمون عنها شيئاً، ليصبح الإنسان مجرد مفرخة للقبح والتشيؤ دون حسيب أو رقيب. فلا سبيل الآن سوى الصراخ مع سيوران: "الولادة هي ما ينبغي بحثه إذا ما أردنا إستئصال الشر من جذوره".

 فيما يعنيني، لا أملك إلا أن أقول بأنني قد أقلعت عن الافتخار بانتمائي للنوع الإنساني؛ ذلك أنني نزلت إلى العمق الأخير لروح هذا الكائن فما وجدت إلا الأنانية والخبث وميول شيطانية أخرى. ولست أبالغ إن قلت بأنه لا يفتخر أحدنا بكونه إنساناً إلا إذا كان ساذجاً أو مثالياً طفولياً، أي إما جاهلاً بطبيعة الإنسان أو إنه لا يريد أن يرى سقوطه المدوي عبر كل الأزمنة والأمكنة. اليوم لم أعد أتعجب إلا لشيء واحد، وهو كيف يتحمل كل واحد منا لمدة سبعين أو ثمانين عاماً كل هذا العبء الذي يسمَّى بالإنسان؟!، ما من معنى آخر للحياة سوى أن ينسحق كل واحد منا، منذ البداية وإلى النهاية، تحت هذا العبء المتمثل في رغبات متضاربة، ومشاعر متوترة تنضوي كلها تحت اسم أو لقب مكلل بالتباهي مسرف في نرجسيته.

 لا شيء ينقص الإنسان المعاصر إلا الوعي بالزمن؛ ذلك أنه لو قام هذا الإنسان بتأمل الامتداد الزمني لمَ قبل وجوده وما بعده، لكان بإمكانه أن يرى حجم العدم الذي يتوارى خلفه أو ينبسط أمامه. وربما كان بإمكانه أيضاً أن يستخلص من ذلك بأن وجوده ليس سوى صرخة خاطفة في فضاء من الزمن الأبدي. ولكن الإنسان، وعبر تاريخه، قلّما تمكن من استبصارات كهذه؛ فلقد اثبت هذا الكائن من خلال تاريخه، وبما لا يدع مجالاً للشك، بأن لديه نزعة للتأله والسيطرة. والحق أنه لو كانت لهذا الكائن صورة واضحة عن الطابع العرَضي لوجوده ومقدار الضرر الذي ينجم عن مشاريعه وأفكاره، لكان قد فقد الكثير من حماسه، و لربما كان قد دفعه ذلك إلى وضع كل أسلحته والتخلي عن كل خططه التافهة.

 بالنسبة لي، لا يكون الإنسان خيِراً إلا إذا أحجم عن كل فعل. بمجرد ما يشرع هذا الكائن في التصرف تبدأ تروس المشاكل في الدوران ويحدث الخراب. إن مشكلة الإنسان مع الوجود تكمن فيما يميزه: حريته. فكل الحيوانات، وباعتبارها كائنات لا تتحرك إلا وفق إملاءات الطبيعة، تعيش في انسجام تام مع وسطها؛ وحده الإنسان يبدو بأن الأوضاع تستعصي عليه، و يبدو أيضاً بأنه يبحث عن نمط حضاري و وجودي لا قِبَلَ للطبيعة به. والحق أن جذور كل مشاكل الإنسان تعود إلى شيء واحد: وهو كون الإنسان كائناً غير متساوق. إنه حيوان حر، أي خليط ضار من الاندفاعات البهيمية و الميول الإلهية.

 من وجهة نظري لا يكون الشيء فعالاَ وذا قيمة إلا بقدر ما يؤدي إلى السعادة. وفي ما يخص الحرية، فهي بالضبط ما يؤدي إلى شقاء الإنسان وبؤسه. فهذا الكائن لم يكن مسالماً إلا في العصور التي كان فيها مثال الحرية مثالاً مغموراً أو شبه منعدم؛ فالحرية إمكان وجودي لا يتلاءم و الاختلالات النفسية للإنسان. إنها هاوية لا قِبَلَ له بها. وإذن من الأفضل له أن يتراجع وأن يكف بقدر ما يستطيع عن النظر إلى نفسه ككائن يعيش لأجل الحرية.

 لذلك اقترح فلسفة اللافعل، ولكن ماذا يعرف معاصرونا عن هذه الفلسفة التي تحثنا على التعلم من الماء، أي أن نذعن لجغرافية الوجود و ننساب بين الأشياء في رقة وهدوء؟!، ومن أين لنا أن نفهم فلسفة كهذه ونحن نعيش في "حضارة" ترتكز كليةً على عبادة الجهد والعمل والديناميكية وتمجيد الحركة والتغيير؟!، وفي الواقع، مهما اختلفت تصوراتنا بخصوص الإنسان، و سواء كنا نؤمن بأنه ملاك ساقط أو قرد تخلَّص للتو من فروته وزغبه، فإن ما هو يقيني وأكيد هو أن هذا الكائن متورط في مغامرة مجهولة العواقب؛ وبأنه عوضاً عن أن يموت -على غرار أسلافه الأولين- موتاً هادئاً على سريره، سيموت في يوم ممزقاً نفسه في حادثة ما.

الخميس، 18 يوليو 2013

معضلة السعادة

من بين كل الأشخاص الذين عرفتهم في حياتي، لم يؤثر في إلا واحد منهم. لقد كان سلوكه وتصرفاته ونظرته إلى الأشياء تعطي الانطباع كما لو انه جاء من كوكب آخر. إذا كان الناس في أعمالهم ونشاطاتهم يجرون دائماً ضد عقارب الساعة ويسابقون الزمن، فهو لا يتحرك نحو أية وجهة يقصدها، إن كانت وجهته نحو عمل شاق أو نحو مأدبة، إلا بإيقاع سلحفاتي. بالنسبة له، لا شيء يستحق أن نتصبَّب عرقاً من اجله؛ فكل سر الحياة يكمن في التحرك ببطء. في الحقيقة، لم يكن يجمعه ببني البشر إلا هيئته الآدمية وسترة من جلد ولحم، أما تصرفاته فكانت أقرب إلى المخلوقات الأخرى منه إلى شيء آخر. مع البومة كان يجمعه عشق التجول ليلا، ومع الكوالا ساعات النوم الطويلة، أما مع القنفذ في التقوقع على الذات.

 الماضي، الحاضر، المستقبل؛ مجرد مفردات في نظره تنتمي إلى علم الصرف والكلام ولا تمس الوجود في أي شيء. السعادة ، بالنسبة له، مشكلة بسيطة وحلها يكمن في عدم التفكير في الغد. العمل لا يجب أن يكون لأجل هدف آخر غير تحصيل الحاجات الأساسية، أما الرفاهية فهي التمكن من شراء علبة سجائر وشرب فنجان من القهوة في مقهى عام. عندما كنا نتسامر ليلا، كان يحلل ويفكك مقومات الحياة من ألفها إلى يائها، لا شيء كان يصمد أمام مزاجه الكلبي وبصره الثاقب. كان يعري كل شخصية اجتماعية، من أصغر بواب إلى أكبر موظف حكومي. عندما يبدأ في الكشف عن الجوانب المضحكة في شخص أو ظاهرة ما، كان لا يضحك أبدا؛ فلا شيء بالنسبة له مدهش بخصوص الحياة، فهي غير جدّية من بدايتها إلى نهايتها.

 من خلال معايشتي لحواراته وملاحظاته، علمت بأن الفلسفة الحقيقية تمشي على الأرصفة و تتردد على المقاهي والأمكنة المهمشة؛ بل إنني علمت منه أيضاً بأن الفيلسوف الحقيقي لا يملك بالضرورة أطروحة ميتافيزيقية أو كرسياً جامعياً. الموقف الميتافيزيقي الحق لا يكمن، حسب تصوره، في السير وراء هذا النبي أو ذاك، بل فقط، وببساطة تامة، في تقليد بعض الزواحف، فقط الالتفاف حول الذات.

 متى تتحقق السعادة؟!
 -عندما نقتنع بأنه لا شيء جدير بالضمانة في هذه الحياة؛ وبأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تعطي دائماً أكثر مما هو ممكن. لقد سلك البشر كل الطرق التي اعتقدوا بأنها تؤدي إلى السعادة، فانتشروا في مناكب الأرض بحثاً عن المال أو المجد أو المتعة؛ لكن بعد أن تم لهم ما كانوا يرغبون فيه، غرقوا في الضجر وعدم الرضا. يقول إبكتاتوس: "السعادة لا تكمن في المكسب والتمتع، بل في كبح جماح الرغبة". وفي الواقع، بقدر ما يرغب المرء ويتمنى وينتظر، بقدر ما تبقى السعادة خارج متناوله. افتح أي كتاب في الثيولوجيا أو الحكمة أو الأخلاق، وسترى بأنه لا يقترح عليك بخصوص مسألة تحصيل السعادة، إلا وصفة واحدة وبسيطة: الإذعان. " تقبل تقلبات وانهيارات الدهر بقلب مفتوح وبصدر رحب، وسترى كيف ستنال سكينة الروح وراحة البال".

يتم القذف بنا إلى حياة دون أي خيارات لنا أو سؤالنا إن كنا نرغب في ذلك أم لا. في يوم ما يفتح المرء عينيه فيجد نفسه بأنه ابن إسكافي أو وزير، وبأنه ملزم بأن يعيش على هذه الطريقة أو تلك؛ وقد يدفع الطموح وعدم الرضا المرء إلى التمرد على هذا الوضع الاجتماعي أو ذاك؛ ولكن عندما يتأمل في أحوال العالم جيداً ويراقب عن كثب تعسفات القدر، سيتبين له، و على نحو واضح، بأنه لا شيء يستحق أن نحزن أو نتمرد لأجله؛ ذلك أن هذا العالم ليس سوى مسرحية كبرى حيث كل واحد منا مجرد ممثل وكل سيرة ذاتية مجرد دور.

 السعادة كلمة مشبعة بالتناقض، وإن كانت ممكنة في هذه الحياة فإنها لا تتجلى إلا على شكل شعور نوستالجي، إنها مثل الصحة، لا نستشعر أهميتها إلا بعد أن نكون قد فقدناها. لهذا، تجد الواحد منا يستعمل دائماً في حديثه عن سعادته صيغة الماضي وليس أبداً صيغة المضارع. إنها تكون دائماً وراءنا؛ مما يعني أنها تكون دائماً خارج متناولنا. رغم كل البريق الذي يتمتع به مفهوم السعادة في الأدبيات الفلسفية، إلا أن روح الانسان لها من الحظوظ لكي تنجو عن طريق البؤس أكثر منه عن طريق الرفاهية والازدهار. فليس هناك ما هو أشد خطرا على الإنسان من العيش في رغدٍ دائم. المرض والأرق والقلق بشأن المستقبل المادي؛ كلها مظاهر للبؤس توقظ الروح و تدفع المرء إلى طرح الأسئلة ومعاينة أكبر القضايا الماورائية وما ورائها. و من هذا المنطلق، نجد بأنه ليس هناك فرق جوهري بين الانطلاق في رحلة بحثاً عن جنيه والانطلاق في أخرى بحثاً عن الله.

 إذا كان لدينا بعض الأفكار العميقة حول الله والحب والموت، فإننا مدينون بها إلى الطابع الدرامي للحياة؛ فلولا الجراح والتمزقات التي يلحقها الزمن بأنفسنا وأرواحنا، لكنا قد متنا من الضجر والبلادة. ولا غرابة في الأمر، فالإنسان يكون عميقاً وهو يعيش تحت سقف كوخ أكثر منه وهو يعيش تحت سقف أحد القصور.

 Evening on Karl John street by Munch


الثلاثاء، 9 يوليو 2013

غواية التمرد

هناك غواية وحشية في التماهي المطلق مع الأفكار المجردة.


أخرجت قطع الشطرنج الخشبية من صندوقها المغبر القديم كأحفورة من الماضي السحيق، وبدأت بقطعة قماش ناعمة جافة في إزالة التراب عنها ببطء. كنت على اتفاق مع أبي أن نعود سوياً للعب الشطرنج بمجرد عودته من غيابه الطويل، وقد اتصل ليخبرني مبتهجًا إنه راجع في الغد. فيما مضى كنا نحل سوياً مسائل الرياضيات، يتحجج بمساعدتي في دروسي كي يرجع لمتعة حل المعادلات، كلانا أحب حالة التركيز والتكريس الذهني المصحوبة بتشغيل الدماغ، الاندماج الكامل الهاديء، الإيقاع المنتظم مع توالي المعادلات. يقرأ القانون بإمعان، ثم ينطلق لا يحده أحد. في رحاب الجا والجتا والظا والظتا والدوال والأسس والجذور التربيعية وقوانين الميكانيكا والهندسة الفراغية وسحر المستويات، يسودُ الكون سكون تام. تهدأ صراعات العالم ونزاعاته التافهة، يحل الصمت ليكلل بجلاله كل الموجودات، يصل فيه المرء إلى أحد مستويات النرفانا، ذلك التماهي الكامل مع المطلق والواضح والمنطقي والجميل، الرياضيات هي تكريس لانهائي للعقل، ولا تخلو من العاطفة أيضاً، فيها لحظة ساطعة ثمينة، تلك الإشراقة المبهرة؛ لحظة الوصول إلي البرهان. في آخر مرة لعبنا فيها الشطرنج، مضت أيام طويلة وهو يحرك قطعه شارد الذهن، قبل أن يفقد تركيزه فيكشف مليكه أمام نقلة ممكنة لوزيري، لم ينتبه إلا بعد النقلة فقطب وزم شفتيه آملاً في سره ألا ألحظ هذه "الزلة". تبادلنا نظرة سريعة استرددتها على عجل قبل أن يتمكن من قراءتها. أطرقت بهدوء، حركة واحدة، وأسحق جيشه. نصر سهل. هممت أن أزيح مليكه. ثم عدلت، منعني حدس غامض من أن أقول له "كش ملك" وكأن شيئاً ما عزيزاً علينا معا سيهوى من علي بعدها مباشرةً. تجاهلت الفرصة السانحة للفتك بمليكه واسترخيت، بدأت أدردش حول السياسة بينما أحرك على الرقعة ما تبقى من قطعي بعشوائية حتى ابتسم وهو يغمغم "كش ملك". تبادلنا نظرات عميقة صامتة. إنه يعرف، وأنا أعرف أنه يعرف، وهو يعرف أني أعرف أنه يعرف، لكنه تجاهل الإشارة لما حدث وكلانا يشعر نحو الآخر بامتنان.

 عجيبةٌ هي مسالك الإله، فمعظم الشرور تنكيلاً بالفرد وحقوق الإنسان هي تلك التي ترتكب خاصةً باسم الانسانية من أجل حرية الفرد وحقوقه. قدرة الأطفال على ارتكاب البشاعات يعتورها نقاء حقيقي خالص، نقاء الشر، الطفل كيان معدوم الضمير عبارة عن "هو" خالصة صافية لم ينضج ولم تتكون لديه بعد لا "أنا" ولا "أنا عُليا" على معيار فرويد، تلك الوحوش الباكية الصغيرة تحرق القطط باستمتاع عميق، يسكبون عليها البنزين ثم يشعلون ذيولها بالكبريت ويتركونها تجري في الشوارع تعوي وتموء كتلاً مشتعلة من الفراء، يضحكون في جذلٍ مسعور. الأطفال كائنات خطرة، تستطيع أن تقرأ في وجه البراءة الجميل؛ القبح يضرب في الصميم، الشر المكين، بشاعة البلاهة، تلك القدرة المطلقة على ارتكاب المأساة، ودون مبالاة، التنكيل فائق العنف بأي شيء وكل شخص وحتى بذواتهم في سبيل الحصول على "لعبة"، الأعين الجاحظة جحوظ التنين، الأسنان اللبنية المتكسرة وحشية المنظر، الأفواه المفغورة الشبقة تلثغ وتثأثيء وتخور، تمضغ علكة رخيصة ماركة "المجتمع المريض"، تعوى في وجوهنا أنْ ليس ثمة "خير" في البراءة، إذا كانت البراءة "هو" خالصة.

 التماهي المتعامي مع الأفكار المجردة الداعية للإنسانية يحول البشر إلى مسوخ غير إنسانية. وفي مكان ما بالاسكندرية كهل وحيد تماماً يبكي دماً، ينعي شيخوخته المريضة المكللة بالعار والخواء والوحدة المطبقة، يتآكل حزناً ومرارة على ابنه الشريد الذي اختار مصير مطاريد الجبل. في زمن النضج أعرف أشياء مصحوبة بافتضاض بكارة الوهم، بانقشاع أبخرة الحلم، أعرف أن "التمرد" مرض من أمراض الطفولة، مثل الحصبة، يختفي في زمن النضج، وأن العجز الإنساني، أو بالأحرى اللا إنساني؛ عن الفهم، عن التواصل الآدمي، لا تعوّضه طبول المجد، أو حفاوة الطنانين، العيانين، الزياطين، خواء الأعماق لا تملؤه ضجة المراقص أو التصفيق في المسارح، كل الأفكار الخرقاء البلهاء في هذا العالم مقتحمة، نافذة، وقحة وكيتشيّة، تتسرب بعنف إلى المسام سماً زعافاً، مزعجة إزعاج الشوكة الرنانة. لقد انقشعت هالة السلطة التي زانت هامة أبي قديماً عن جمجمة مشتعلة بالشيب فلم يعُدْ إله باطش، ولا وحش ديكتاتور يرغب في استلاب حريتي، هكذا تكشف جبروته القديم؛ كما كنت أراه بعين الطفولة؛ عن شيخ ضعيف، كهل خائف، بحاجة إليّ بأضعاف أضعاف حاجتي أنا له، إنه الآن دوري أنا، ما أغرب أن احتياجه الأساسي اليوم يتمحور حول الإنصات، فقط بعض الوقت والإنصات، يريد أن يتكلم بفخر عن كفاحه وإنجازاته وأوجاعه وأدويته وهواجسه فننصت باهتمام، أن يعرف بعد كل هذه السنين رأيي الحقيقي فيه، يقف بقلب واجف أمام ماضيه، احتياجه عميق، عريق، للشكران. يرتعد فرقا أن يتمخض عناؤه الطويل عن فشل، مقت، رفض، ونكران. كل آلامه محتملة؛ إلا الحرمان العريق في شيخوخته من محبة الأبناء.

 قالها كافكا: "يا عزيزي أنت حرٌ، ولذلك بالتحديد أنت ضائع". اليوم أنت في الربع قرن من عمرك، في فمك طَعم مرٌ لمذاقِ حقيقتك؛ والعالم، مذاق معاناتك مع الإدراك نافذ الثقل كغطاء رخامي لمقبرة جدرانها اليقين، لكن لديك ما يكفي من الشجاعة كي تزدرديه لا أن تبصقه على رؤوس الناس. إنه يعرف، وأنا أعرف أنه يعرف، وهو يعرف أني أعرف أنه يعرف.

 لا تهلع يا أبي ولا تترك الحزن يعتريك، فأنا ابنك والآن وقعنا على صكوك صداقتنا، وأنا هنا، وسأجهز لك قهوتك بنفسي وأرص بيادق الشطرنج بانتظار عودتك، سأنصت لك باهتمام حقيقي، أسمح لك أن تدوس بكبريائك فوق كل انتصاراتي الرخيصة في معاركي الخاوية، وحماقاتي القديمة ترقد مدفونة في الظلام، كحشرة. 
 





الاثنين، 8 يوليو 2013

الغرق في السريالية





 دوائر الدخان تلتف كمشانق حول عنقك عينان زائغتان تدوران تبحثان عن منفضة سجائر تطفئ فيها أحزانك، التقط أنفاسك فصوتهم عال و انت تائه زائغ تتوسل إليهم في غمغمة لها طعم الصمت الخانع ان يكفوا،  لقد بدءوا في قرع النحاس و صب كأس من صلب مصهور سائل صنع تمثالا حاكى فيه "ألبرتو جياكومتي"، قرع الباب ايذاناً بالرحيل و لكن كيف له أن يرحل وهو موصد بأوتاد مثبته الي مركز الأرض، تذكرت وقتها كيف قال له مدرس الدين ذا الشنب المحدد بدقة ان الكعبة هي مركز الأرض وأن أبو بكر الصديق كان يطيل شعره في المقدمة صانعاً " بانك"، قُد جسدك من بازلت ناري داكن قد تصخر قد كون قواطع حادة خشنة غير مشذبة بعض الثقوب صنعت ليمر الريح؛  يصفر.. يصفر في نحيب يصرخ في جزع كلوحة "مونش"، هل وجدوها بعد أن سرقت؟!، وجدوا شاباً وقد لف طعامه في اسكتش "مونش"  وبقايا الزيت قد صنعت بقعاً.. بقعاً خرجت من فم الرجل الذي يصرخ صرخة أبدية، لا تسكت هل انتهى العازفون من التدريب إذن فليغادروا المسرح لقد امتلأت خشبته بآثار أقدامهم الموحلة من المطر.. مطر لحيم صهر الإسفلت وقد غاصت أقدامهم حتى المنتصف. استحالت الي قار تفتت لاحقاً بفعل الشمس، صرخ في ثلة من الصحفيين من أكلى لحوم البشر حاملي الكاميرات هلا تغلقوا عليها الباب وترحموا ضعفها في أيامها الأخيرة ما عاد يصفق لها أحداً سقطت أهدابها على الأرض وقرض الفأر جماهيرها، أصبحوا قطع ليجو غير مكتملة مبتوري الرؤوس، تسللت وسط المقاعد المجلدة بالقطيفة الحمراء المثقوبة بفعل السجائر وحاول أن يهز سيدة جميلة قد تآكلت أطرافها فسقطت على الأرض متناثرة كمانيكان قديم في أحد محلات وسط البلد، محلات مجافية للذوق تسطع بكرنفال غير متناسق من الألوان و الإضاءة، لماذا يداهمه ليلاً و هو يرتعش هذا الحلم العجيب ؟!، فأر عملاق كالكراكن يقضم سور الصين العظيم. قطع ملونة متناثرة في قاع بئر كلما أغمض عينه حاول أن يكمل قطع البازل الناقص، لماذا وقف ليلاً بعد انتهاء مواعيد الزيارة وإسدال الستار و طرد الزوار يقرع الباب بيدين لا يكلا طالباً أن يلقى نظرة على لوحة، أدخله الحارس من خلال مواسير التكييف، تجمد في المنتصف كالألمان وهم على أعتاب ستالينجراد حيث دارت رحى المعركة و تناثرت بقع الدم على الثلج و دقت عظام الرايخ الثالث، دخلت أفواه من القوارض لتُعمل أسنانها في جسده الذي ينتفض من البرودة، حاول أن يلقى نظرة أخيرة من الكوة الي اللوحة ولكنها دموع الموديل تفاعلت مع النسيج و ذابت فيه فتحولت من لوحة كلاسيكية للوحة تأثيرية، ظل يحدق محاولاً تبين الوجه الذي ساح كساعات "دالي"، يتذكر عندما كان صغيراً كان يتسلى بحرق الوجوه البلاستيكية وينتشي وهو يشاهدها تنثنى حتى تخبو النار وينكمش البلاستيك متخشباً صانعاً تكويناً جديداً، وعندما فقد الشعور بقدميه كانت تودعه بنصف فم وأنف متآكل. 

السبت، 6 يوليو 2013

ميلودراما اليسار

على الهامش، نحن للأسف الهامش.


نحن من لا تصنيف لهم، نحن أول من طلب مقاطعة الإخوان في الإنتخابات، و بكل تأكيد نحن لم نقفز فرحاً وطرباً عند سماع خبر خلع مرسي، نحن من رأينا وجهة الفنجري وهو يحيى الشهداء مرسوما على وجهه السيسي فضحكنا على سخرية التاريخ، نحن من يقفذ لخيالنا صوت جدع يا باشا مع كل تحية للشرطة، نحن من يغرق وجهوهم الدماء ويشعرون بطعمه مع كل هتاف للشرطة، نحن من ينكمش قلوبهم كورقة جرائد ملتطخة بالدم في أحداث ماسبيرو مع كل تهليل لطائرات الجيش، نحن من يشعر بنقص في الرجولة أو إنعدامها عندما نرى فتاة مجلس الوزراء تتعرى ثانيا مع كل ضوء فلاش لصورة شخص مع مدرعات الجيش، نحن من يشعر أنه يكفى للإخوان أن جلعوا الشعب يرى الدماء بينه وبين الجيش والشرطة ماء، كي تسبهم صباحا ومساء، نحن الذين لم نفرح ولم نحزن، نحن من لم يقفوا بين بين، نحن الذين لا ننسى، نحن الذين اصبحوا لا يطمئنوا للفرح، ويفتشون فيه عن الخديعة، نحن الذين لا يصنفون على الخائنين وعلى حماة الوطن، نحن الذين لم كفرنا بالأمل بعد ما رأينا العبث، ونحن أيضا الذين مازالو ينتفض قلوبهم مع كل نقطة أمل، أي نعم نحن نرجع إلى كفرنا مرة ثانية سريعاً حاملين جروح جديدة، نحن الذين في هذه الأجواء المفرحة والمتخبطة نهرب من الزحام إلى عالمنا الخاص، ليس عالم موازي، إننا لا نعرف نهاية هذا العالم كي نبني عالماً موزاياً، ولا حتى عالماً معاكس، فنحن أيضا لا نعلم ما هو طريق الذي يسكله هذا العالم كي نمشي عكسه، إنه عالم صغير ثابت المكان، مرتفعون على الأرض قليلا.

 لنترك الخيال يسبح مع قطعة موسيقى، يفكر في بيت شعر غير مفهوم، يهيم في خصلة شعر لفتاة مجهولة، يدخل في حرب مع دخان السيجارة لينتصر ثم لا يلبس أن يتضامن مع السيجارة ويتهم نفسه بالشر المبرر، نحن من نصارع النفس بالنفس.
 نحن هنا لا تمثل فئة أو مجموعة، نحن هنا تعود عليّ، أنا بما تحمل من أشخاص من كل فج، وأفكار مضادة لبعضها البعض، ووحدة متوحشة كهف مهجور أنا الهامش وسأظل الهامش لهذا العالم القبيح.

الأحد، 30 يونيو 2013

موظف حكومي على مشارف الأربعين

عيش، حرية، كرامة إنسانية. 

 عيش

 لقد جئت إلى هنا، إلى تلك اللحظة، من حيث كان وقت ضائع يكفي لملء الكون بمجراته. هناك؛ في المكان الذي جئت منه، كنا كأننا في سديم فضائي وإشارات المركبات تومض بعشوائية ككلاب عملاقة من معدن تعوي في الفراغ الكوني حيث الصوت لا ينتقل في الفراغ وإن استعنت بكل الأحبال الصوتية لسكان الأرض. كان الكلام منسلخاً عن الواقع مثل الأذان: وكان الواقع نفسه قبيحاً إلى حد العمى عن تفاصيله. لم يكن إلا الأمل في اللحاق بمركبة فضائية تقلك إلى حيث الواقع أقرب شبهاً بالكلام إلى أناس يرتدون ما يتفوهون به.

غير أني كنت قد رحلت فعلاً إلى العالم الآخر في زمن مبكر، وحينها عرفت أن لا مساحة لي هناك إلا دروب الملفوظين من صناديق زبالة العالم. لم يكن وقت ضائع على الإطلاق لكنك أنت ضائع، لا شيء يعنيك حقيقة مهما اصطنعت الاهتمام. من اللطيف أن تكون معظم المصطلحات الحضارية المتداولة؛ تلك الموحية بالخفة والتحرر من تراث الديني والمجتمعي الطويل مجرد ستيكر متداول أنيق يجعل الفرد مقبولا في المجتمع المتحضر ليس إلا، لكن من المستحيل أنْ يكون لهذه الأفكار وجود عميق في حياته وإلا فسيكون التوحد والتماهي المطلق معها مأساة إنسانية ثقيلة، لا تعني إلا المزيد من التكريس للمسوخية والتشيؤ.

 حصلت على الشهادة الجامعية التي وفرت عليّ تمثيلية التعليم العالي في القاهرة، عدت صاغراً، لاهثاً إلى ضرورة وجودي أو إمكان أن أفعل شيئاً له معنى، أي شيء.

 كنت متوحداً بلا سياق، وكان الوقت الفائض عن الحاجة لا يزال. كنت أنا أو ربما ليس أنا، ليس تماماً؛ ربما أصدق قليلاً أو أكثر استعداداً للتواؤم والتكيف. لكن الوقت أمسى ضاغطاً إلى حد صعوبة التنفس. وهكذا تدربت أن أبني سياجاً عازلاً حول نفسي تحاشياً لاسفكسيا عقارب الوقت. التحقت بعمل حكومي منحني دخلاً مريحاً، وأدمنت الحشيش. مع الوقت ظهر ناس يخاطبونني :يا باشا" وانفتحت أبواب الدوائر المسماة بديلة. عشت ضاحكاً وأنا أنا أو ربما لست أنا تماماً. كان على الصراف أن ينتظر إلى أن يفرغ مكتب الصرف ليمرر لي النقود، حتى لا يرى زملاء الأقسام الأخرى كم أتقاضى عن اتقاني.

 كانت هذه إحدى الأفكار الشائعة عن الثورة: أن يستفز تفاوت الدخول مطامع الموظفين، صراع حيواني أصيل. هنا حيث كل الناس موظفون وسقف الطموح هو أن يكون المرتب عالياً؛ لا سؤال عن القيمة النوعية للعمل الذي تتقاضي عنه أجراً. الثورة على الفقر، مع الفقراء، لكن بشرط أن يكونوا موظفين؟! من وقت إلى آخر، كانت تحدث انتفاضات صغيرة داخل المؤسسات لكنها لا طالبت بتغيير ولا أدت إليه. والفقراء ظلوا فقراء وازداد عددهم وإن أصبح الأغنياء أقل وأكثر قبحاً حتى.

 فإلى أن مات أبي بالتزامن مع هجمة ١١ سبتمبر تقريباً فانهارت الجدران التي شيدتها من حولي في وجه الوقت المهدر كدماء لا منتهية تراق على قارعة الطريق، لعلني جربت نوعاً معطلاً من السعادة. أنتجت سياقاً أعمل فيه شيئاً، ما لبث أن تفتت في لحظة، وكان علي أن أعيد بناءه من لا شيء. لكن هذه المرة بلا حشيش، باتت رواسب خوف البوليس المزروع في جسمك من قبل أن تصبح "باشا" وحل فزع الوقت أبشع من فزع الموت نفسه. للمرة الأولى أحسست به داخلك، في جسدك كما على مسرح أحلامك: ضياع الساعات التي انهمرت حولك فجأة شلالاً في كل الاتجاهات؛ وأكد لك أن الثورة وإن حدثت محال أن تتبع أهواء الموظفين.

 حرية

 جئت إلى تلك اللحظة من حيث مات أبي فكففت مجبوراً عن ابتلاع دخان الحشيش. همت فزعاً من الوقت الضائع الذي بات داخلي كما خارجي كأنني مصفاة في مائه، أمارس الغرق ولا أزال لا أختنق وإن تنفست بعرقي. وكم تأسفت حيال ذلك الحوار المضني مع قبح لم يعد عزله او مراوغته ممكنة وأنا، شيئاً فشيئاً، أتخطى الانهيار.

 في هذه السنوات بدأت تتجلى ألوان الوقت المتسرب في تفاصيل العمل والحياة، أو لعل ما تجلى فعلياً كان أسبابه: الحقائق التي تبقيه ضائعاً وتحرمك استعماله في شيء مهما حاولت. عرفت مثلاً أن الغلاف الخارجي للشيء وحده محط الأنظار والاهتمام، وحين يكون المحتوى المفترض قيمة أو مبدأ يزداد الاهتمام بالغلاف. لكن المحتوى يظل فارغاً يماثل الوقت، لا يمكن حتى وصفه بأي صدق تبعاً لشروط التفاعلات المعمول بها، وبحسن نية أحياناً.

 بوضوح أحسست قسوته غير مسبوقة أدركت أن تراتبية طبقية أثرية ربما كانت مقترنة ذات يوم بنبل السلالة لم يشبهها إلا سقوط مريع في جودة سلالم الهرم واستعداد متزايد لانهياره دفعة واحدة. إن مساحة لغير التسول والدعارة (والبلطجة الملحقة بهما طبعاً) لم تتسع لأحد. لقد أصبح الوقت ضائعاً لأنه لم يتجدد منذ الأزل، فكل المطلقات بما فيها غير المعلن منها – كالطبقة – مازالت. وخلاف التأسلم المتفشي كوباء على كل مستويات الحياة لا مجال لتجاوز الوضع القائم إلا ذلك الحشد الصغير المهدد من عموم الناس ربما أكثر حتى مما يهدده "النظام" المتآكل – مثله – في شبكات لامنتهية من الدعارة والتسول يحميها عنف مأجور، وهو يطرح كلاماً قديماً وغير مقنع عن العروبة والفلاحين وفلسطين. ويكرّس أنماطاً من القمع والإقصاء أبشع كثيراً مما تمارسه السلطة السياسية نفسها.

 بامتداد وسط البلد، ذكريات باهتة عن شوارع فُرّغت من المرور وجموع صغيرة من الناس في الميدان؛ امرأة نحيلة بصوت مبحوح تحاول أن تقنع المتظاهرين أن لا يتبعوا صفاً منهم يريد أن يوقف زحف المسيرة عند هذا الحد: لا فائدة. تبدو مضحكة وهي تصرخ إن هؤلاء مدسوسون وهم أعداء نضالنا فلا يخرج من فمها سوى ما يشبه الأزيز.

 كرامة إنسانية

 جئت إلى تلك اللحظة من حيث أيقنت أن النضال، ذلك الخليط المسرف في الارتباك والضبابية من القومية العربية والماركسية والطائفية السنية، لم يعد له شغل سوى التخديم على الدين المسيس أكثر فأكثر كواقع – خرافي، بطولي، رديء، ممسوس بالطبقية والدونية، محكوم بالوقت الضائع – ليس منه فرار. وكان في انحدار جودة الهرم المجتمعي تفسير صعود التدين كاختيار وإن عكس ذلك التسييس فهو عابر لمستوى الدخل والتعليم، على نقيض ما يقال من أن التأسلم فقر وجهل أو نتيجتهما. فالأصولية حل سهل لمعضلة المسئولية عن الوقت الضائع وهي رد فعل موائم لأعراف محافظة إلى حد التعفن. إنها كما لا يكف أحد شباب المنظرين عن الترديد منذ ٢٠١١ حالة "ملحمية"؛ وقد حاولت أن أسأله شخصياً عما يقصد بكلمة "ملحمية" ولم أصل إلى شيء. غير أن ثمة ما يقوله الأصولي لـ"الوسطي: وأفهمه تماماً: أنا أصلح منك في كل شيء؛ لطريقتي في التسول والدعارة غطاء إلهي ليس لطريقتك؛ لإحساسي بالدونية شعوب كاملة مستعدة للموت بل وتفضل الموت على الحياة مثلك بلا انتقام؛ ولثورتي على ما نحن فيه أفق أبعد من أي فرد بل أبعد وأرقى من التاريخ الإنساني نفسه.

 هكذا يتحول رفض الحاصل بلا تصور واقعي عما يجب أن يحصل أو كراهية الآخر كبديل عن كراهية الذات إلى وقت ضائع من نوع جديد. وهكذا يتلاقى "اليسار" القديم نفسه مع الإسلام السياسي، ويتجسد الاثنان في النهاية المقيتة للحظة لعلك أمضيت عمرك السابق عليها كله تنتظرها: لحظة أصبح النضال تضحية حقيقية بالجسد عبر التظاهر بأعداد مقنعة لا من أجل أحداث بعيدة عن مصر ولا خرافات ضد التاريخ ولا من أجل دخل أعلى بلا عمل حقيقي في الوظيفة الحكومية ولكن من أجل أن يكون الفرد إنساناً له الحق في التعبير عن النفس، في الرقاد على الأسفلت والغناء، في "الكفر" قبل أن يكون في "الخروج على الحاكم"، وفي ممارسة حياة يريدها بلا حاجة إلى طريق إليها يمر عبر أي ملحمة كانت؛ لحظة أصبح الفرد قادراً على الخيال.

 وقف أحدهم زاعقاً: الثورة لم تكن في ٢٥ يناير. وفي انتظار ٣٠ يونيو كأمل واه في إصلاح بعض ما فسد خلال العامين الماضيين – في العودة إلى نقطة الصفر بمعونة المؤسسة العسكرية إن أمكن – عدت تنصت، للمرة الأولى منذ وعيت الحياة، لعواء الكلاب المعدنية. عدت ترى وقتاً ضائعاً يكفي لملء الكون، وفي السديم الفضائي المحيط بك مع خطر الموت الآن تتطلع إلى إشارات المركبات الفضائية.

 إلى أين تذهب يا رفيقي وقد صرت على مشارف الأربعين؟