الاثنين، 7 أكتوبر 2013

صنم الأنا وشهوة التسلط




لا يوجد وهم طوال الحياة سبق للإنسان أن تعلّق به مثلما تعلّق بأناه. ما إن تجلس إلى احدهم، حتى يبدأ في تشغيل تلك الاسطوانة المعتادة: "أنا، أنا، ثم أنا". الإنسان بإمكانه أن يتنازل عن كل شيء، عن ثروته، عن عائلته، وربما عن الكون، لكنه لا يستطيع أن يتخلى قيد أنملة عن ضمير المتكلم. حينما تقول بأن الحياة لا معنى لها وبأن الله مجرد ضرب من الخيال، لن تثير غضب أحد، سيأخذ الكل كلامك على أنه تحليق فلسفي، لكن إن قلت نفس الكلام عن شخص ما، سيعترض عليك بشدة وقد يذهب به الأمر إلى اتخاذ بعض الإجراءات ضدك. هكذا نحن، عندما يتعلق الأمر بالأفكار الكبرى والنظريات العامة نتصرف وكأن الأمر لا يعنينا، لكن عندما تطال هذه الأفكار مجال مشاعرنا النرجسية وخصوصيتنا الفردية، نقيم الدنيا ولا نقعدها. إذا كانت الحياة لا معنى لها، من يمكنه أن يستثني نفسه من شمولية هذا الحكم؟! ، الأنانية عائق فكري يحول بيننا وبين الفهم الكوني. لم تحقق الفلسفات والمذاهب الخلاصية، على مر التاريخ، أي تغلغل حقيقي في المجتمعات البشرية؛ والسبب في ذلك يعود إلى أن الخلاص الذي تقترحه ثمنه تنازل الفرد عن أناه، فالسعادة بالنسبة لهذه الفلسفات لا تتحقق إلا في المجال الذي تنمحي فيه فردانية المرء وتضيع في اللاتمايز الكوني. ولكن من منا سيقبل بسعادة تلزمه بأن ينظر إلى نفسه كنكرة، فيما كبرياء الواحد منا يجبره على عدم التنازل حتى عن اسمه الشخصي؟!، حب الذات وانتفاخ الأنا يولّد العمى أحياناً. نحن لا نكره الآخرين ولا نفهمهم إلاّ لكوننا لا ننظر إلى أنفسنا كما ينظرون هم إلينا. لو تمكن لأحدنا أن يتجرد من أنانيته، للحظة واحدة، وتأمل ذاته من الخارج، لتساقط  لحم وجهه من الخجل، ولربما انتابته الرغبة في الاختفاء عن الأنظار للأبد. كل واحد منا يدعي بأنه يعرف نفسه حق المعرفة، لكن هذه المعرفة لا تكون أبدا بمستوى وضوح وعمق المعرفة التي يكوِّنها الآخرون عنا، إنها نفس المشكلة القديمة: أنانيتنا وعي زائف يقف بيننا وبين الأشياء كما هي.

 بما أن التنازل عن الأنا يعتبر شبه مستحيل ويتبدّى كضرب من الخيال الفلسفي، اقترح أن يقوم الواحد منا، وذلك من حين لآخر، ببعض التمارين للحدّ من الزهو وانتفاخ الذات. وليست هذه التمارين شيئاً آخر سوى أن يتعود المرء على التفرج على ذاته بنفس الطريقة التي يتفرج بها هو نفسه على مسرحية هزلية، وأن يعتبر أي سوء يحصل له كما لو أنه يحصل لشخص غريب لا تجمعه به أية علاقة. يجب أن اعترف بأن أجمل الإشراقات الفلسفية التي عشتها هي تلك اللحظات التي كان يكتسحني فيها الشعور بكوني مجرد شبح، إنها لحظات لا يعود المرء يلمس فيها أي خيط يربط بينه وبين ذاته، هوة سحيقة تفصل الذات عن وعيها الذاتي. في الحقيقة، لا شيء يسبب الإرهاق والضجر أكثر من الوعي المتواصل بالذات، لذا يجب أن نتمرن على اختزال وجودنا إلى الدرجة صفر من الوعي، وأن ننخرط في الوجود انخراط النباتات فيه.



 المجتمع عبارة جحيم من الجَلْد المتبادل؛ الكل يريد أن يتسلط على الكل. دلوني على إنسان واحد لا يُفعِّل ميوله الديكتاتورية!، كل واحد منا يسعى إلى أن يكون الأول في أي تنظيم يقع تحت يديه، سواء كان هذا التنظيم دولة أو طائفة أو قبيلة أو حتى أسرة. من بين مجموع السكان لأي بلد ما، لا يوجد شخص واحد لا يتمنى، على الأقل في لا-شعوره، أن يكون المواطن رقم واحد في بلده. لا أحد منا يكتفي بذاته؛ لا أحد منا يتحمل عدمه الداخلي، الكل يتطلع إلى العالم الخارجي بحثا عن زمرة من العبيد ليصب عليهم جام غضبه و كراهيته، بلا مبالغة الكل عبيد لمن يرفض الخضوع ويلوح دوماً بسوط تسلطه.

 بداخل كل إنسان يرقد ديكتاتور؛ وعندما تتاح له الفرصة لممارسة مواهبه الاستبدادية ينضاف قدْر من الشر إلى العالم. إن الإنسان لا يكون طبيعياً إلا إذا كان في حالة من الضعف والإحتياج؛ وإن كان لكم شك في الأمر، إمنحوا أكثر الناس تواضعاً وأشدهم ورعاً، قدراً من المال والسلطة وسترونه كيف سيتحول إلى فرعون آخر. شهوة السلطة متجذرة في نفس كل واحد منا، ولا ينقص إلا بعض الشروط السياسية والمادية لكي تسقط كل الأقنعة وطلاء الوجوه لتظهر الهوية الحقيقية للطاغية الذي يسكن جنباتنا.

 "حرية، مساواة، إيخاء." هذا شعار جذاب وطموح لكل ثورة تريد أن تتقدم بالمجتمع خطوات إلى الإمام، لكن مثالية هذا الشعار تتناقض على طول الخط مع ما يعنيه مفهوم المجتمع الإنساني في حد ذاته؛ حيث الكراهية المشتركة وما يترتب عنها من قهر وتجبر وتسلط. حاول فقط أن تطبق مكوناً واحد من مكونات هذا الشعار؛ أي حاول أن تكون إنساناً حراً أو أن تكون أخاً للجميع وسترى كيف ستموت من الجوع. المجتمع لا يقبل بالمثل والأخلاق السامية إلا في المواعظ والخطب العصماء؛ لكنه في الواقع لا يعترف إلا بمبدأ هوبس فقط: "الإنسان ذئب للإنسان."

 في الواقع لو قمنا، بطريقة ما، باجتثاث هوى التسلط من قلوب البشر، لربما أدى هذا بالمجتمع والتاريخ إلى أن يفقدا الكثير من ديناميكيتهما؛ فالتاريخ، مثلا، لا يحركه بحث البشر عن العدالة بقدر ما يحركه تعطشهم للسلطة؛ الذين يوجدون في قاعدة المجتمع لا يريدون فقط إقتسام الثروات مع الذين في القمة، بل يريدون كذلك أن يضعوهم تحت تصرفهم لكي يذلوهم ويحتقرونهم، إنه الانتقام الدوري، بنزين كل القلاقل والثورات.

 مفهوم السلطة يسبب الذعر؛ وما يرعب فيه أكثر هو أنه ثاوياً في طبائع كل الأشياء، من حركة الإلكترون إلى حركة كل المذاهب والكتب المقدسة؛ بل يمكنني القول بأنني لا أرى في وجه كل طفل بريء إلا ديكتاتوراً في حالة كمون.