الاثنين، 5 أغسطس 2013

سرير بروكوست


تقول الأسطورة الإغريقية أنه كان هناك مجرم وقاطع طريق يدعى "بروكوست" يملك سريراً، كان يصيد الأشخاص ويأمرهم بالنوم على السرير فإذا كان الشخص طوله مناسب لطول السرير نجا، وإن كان أقصر من طول السرير يقوم بروكوست بتمديد وشد ساقيه كي يتناسب مع طول السرير، وإن كان أطول من السرير يقوم بروكوست بقطع أطرافه ليلائم طول السرير.

 معظم الأفكار في حد ذاتها هي ضرب من الخيال أو التجريد أو على الأقل يجب أن تبقى كذلك. لكن الإنسان عندما يقع تحت إغراء وغواية فكرة ما، تجده يغذيها بكل مشاعره وأحاسيسه، ويسخِّر لها كل طاقاته البلاغية والشعرية، فيحولها على إثر ذلك من كونها مجرد انطباع إلى جنون ميتافيزيقي متكامل تقام له المعاهد والمعابد، وتحميه مراكز المخابرات والشرطة. والحق أن الإنسان كائن وثني بطبيعته؛ فهو لا ينفك يؤله أي شيء يخرج من بين يديه، حتى وإن تشدق بعلمانيته فإن هذا الإنسان لا ينقطع البتة مع ميوله التأليهية. عشقه للأحلام والأساطير يدفعه دائماً إلى إضفاء صفة الإطلاق والألوهية على أي شيء يحظى باهتمامه ويدغدغ إعجابه، بل يمكن القول بأن هذا العشق هو المحرك الحقيقي للتاريخ الذي بدوره ليس سوى تعاقباً زمنياً لمختلف أنماط التأليه والوثنية. ميل الإنسان إلى عبادة أشيائه وأفكاره هو المسؤول عن كل الجرائم التي وقعت على مر التاريخ، فمن يعبد عجلاً أو إلهاً ما يدعو الآخرين إلى عبادته أيضاً، ومن يرفض الانصياع لدعوته، ما عليه إلا أن يستعد لمواجهة حرب مقدسة قادمة. هكذا هو الشخص المتطرف، إنه يتماهى مع عقيدته إلى الحد الذي لن يترك فيه أي مسافة بينه وبينها، بل إنه لا يكاد يرى أي شيء خارجها. بالنسبة له، ينقسم العالم إلى معسكرين: معسكر الإخوة في العقيدة ومعسكر الشيطان. دوجمائيته تطرد عنه كل شك وتجعله لا يتردد في قتل الآخرين أو في قتل نفسه، إنه في كلتا الحالتين إما مستبد وإما قتيل أو شهيد، إذن فهو خطير.

 كل عقيدة بطريقة أو بأخرى هي تمهيد ومقدمة على الورق لإرتكاب العنف والفظاعة. وإجراءات كالحرق أو الرجم أو قطع الرؤوس بالمقصلة لم نلجأ إليها لأننا وحشيون أو ظلاميون، بل لأننا وثوقيون. كل من يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة هو بالضرورة شخص اضطهادي وغير متسامح، وفي كل مرة يلتقي فيها تصوره بتصور آخر مضاد، يسيل الدم. ولأنه لا يقبل بالطابع النسبي للرؤى والأفكار، فإن ذلك يجعله يرى في التسامح والحوار ضرباً من التساهل والتهاون في إحقاق الحق وتأدية الواجب.

 المتطرفون هم محركو التاريخ، و كل شعب لا يرى في نفسه شعباً مختاراً لن يترك أبداً بصماته على أرضية التاريخ. هل يمكن تصور العصور الوسطى بدون حروب دينية أو محاكم تفتيش؟! وكيف كان للقرن العشرين أن يكون ممكناً بدون مجنون كهتلر أو ديكتاتور كستالين؟! لا تتسامح الشعوب فيما بينها إلا بسبب توازن الرعب، أما الأديان فلا يعترف بعضها بالبعض إلا بعدما ينهكها ويدميها العراك. والحق أن كل ديانة لا تقوم إلا على خراب ديانة أخرى. المسيحية مثلاً؛ لم تزدهر إلا على حساب الفلسفة اليونانية والوثنية الرومانية. عندما تتبنى دوجما ما دينية أو سياسية قيم الحب والسلام تنهار قواها على الفور، فبعدها الإنساني يولّد الانشقاقات الداخلية، ويسمح بتكاثر المرتدين والهراطقة، كما يعطي فرصة لاندساس الأعداء. مكيافيللي على حق: "ثمة أمان كثير في أن يخشاك الناس من أن يحبوك." إن النظم السياسية والدينية لا تستمر في الوجود إلا بقدر ما تفرز من الرعب والخشية، وما دامت تلجأ إلى الإقصاء والاضطهاد والعقاب وتحيط الجميع بدائرة ملؤها الشر واللاتسامح، فهذا دليل على أنها مازالت قوية. أما عندما تتبنى هذه النظم فلسفة الحوار وتسعى إلى بناء جسور التفاهم والصداقة مع العدو والمختلف، فإن ذلك إشعار ببداية عصر انحطاطها. إنها نفس القصة القديمة: كل إله وأيدولوجيا لا نُمَثلُ أو نُقتل من أجله فهو إله ميت أو بالأحرى هو إله يقع على الهامش بعيداً عن مجرى الأحداث.

 لكل عقيدة وأيديولجيا مقصلتها؛ وكلما كانت هذه الأيديولوجيا قوية كلما كانت وحشية. والأنظمة لا تفرض نفسها بالمنطق وقوة الحجة، بل بعدد الضحايا الذين تهشم رؤوسهم أو تحرقهم أو تزج بهم في السجون. إن الشراسة هي ما يمدد الطريق أمام كل أمة تتقدم في التاريخ. ولكن مراجعة دقيقة لهذا الأخير تؤكد بأن كل أحداثه لا تنبع إلا من تعصب البشر لقناعاتهم ومن التقدير المفرط الذي يولونه لنظمهم الدينية والسياسية. عندما أسمع أحدهم يتحدث عن "نهضة الأمة" أو "إحياء الماضي المجيد" أو يستعمل كلمة"نحن"، أبتعد عنه قدر ما أستطيع وأفر منه فرار المرء من الجذام. إنني لا أرى فيه إلا ديكتاتوراً مؤجَّلاً أو جلاداً ينتظر فرصته.

 في الواقع، عندما يفقد الإنسان مَلَكَة الشك كمقولة برتراند راسل: "أنا لست مستعداً أن أموت في سبيل أفكاري لأنها قد تتغير."، يقع في شباك أول إله أو شيطان يقابله على قارعة الطريق. الشعور بالضجر والرغبة في التشويق واستجلاب الشغف، الذي تفرزه أحداث التاريخ، يدفعان المرء إلى التحمس لأي فكرة قد تدغدغ أنانيته ونرجسيته، أو قد تنسيه محنة الحياة عبر الإيحاء له بعالم مثالي متواجد في الماضي أو سيتواجد مستقبلاً. وكلما اشتدت وطأة وضجر الحياة على المرء، كلما ازداد تعصبه للمبدأ الذي يؤمن به. لذلك لا يجب أبداً أن نبحث عن طريق للحوار مع كل شخص يؤلِّه عقيدته، إنه مأخوذ بجاذبية عوالم أخرى، إذن فهو لا يرى ولا يسمع وسيضع كل من يخالفه على سرير بروكوست.

 كل متطرف هو عابد صنم؛ تعصبه لفكرته يحوّلها إلى إله، ويحوله هو إلى قاتل ضمني، وفي الواقع لا توجد في التاريخ ولو مهزلة دامية واحدة لم ترتكب باسم إله ما. وإذا كان هذا الإله يسمى تارة بالحقيقة وتارة أخرى بالتنوير أو العدالة، فإن النتيجة تكون دائماً واحدة؛ خراب ودمار، أشلاء ودماء. شخصياً أشعر بالأمان أمام مسئول حكومي فاسد أكثر منه بالقرب من شخص يتعصب لمبدأ ما، بل أرى بأنه لكي يكتسب المرء مناعة ضد داء التطرف وأمراض الحياة، عليه أن يفتح بين الحين والآخر كتب السوفسطائيين وممتهينين الكلام؛ فهم على الأقل كانوا صريحين مع أنفسهم ومع الآخرين، لم يكونوا يدرِّسون "الحكمة" إلا من أجل جني المال. و أما الحقيقة فلم تكن تعني لهم إلا بناءا من الدهاء والصور مسرفة البلاغة. و ماذا عن الفضيلة؟! إنها ليست من تخصصهم؛ يجدر بك أن تبحث عنها في يوتوبيا أفلاطون أو تلميذه أرسطو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق