السبت، 14 يونيو 2014

بؤس الفلسفة

من فرط استهلاكنا للغة اليومية شديدة العادية أصابنا الضجر وبدا كلامنا عن الأشياء يغدو مبتذلاً؛ من هذه النقطة وبدءاً من هنا بالضبط بدأنا نبحث عن لغة جديدة وجذابة تتحدث عن نفس الأشياء، لكنها تحمل كل سمات التعالي النخبوي والغموض الذي ينطوي على الخواء. أي نتيجة انتهى إليها لهاثنا ذلك؟ إلى شيء اسمه الفلسفة.


***

كل خط زمني يمشيه المرء منشغلاًً بالفلسفة هو خط مهترئ سيودي به حتماً إلى هاوية لا قبل له بها. الآن حينما أتأمل كل تلك الدقائق التي أفنيتها في الانكباب على النصوص الفلسفية، لا أشعر سوى بالحسرة والمرارة؛ لم يسبق لشيء في هذا الوجود أن خذلني مثلما فعلت الفلسفة. لقد أغوتني إلى وكرها ووعدتني بأشياء كثيرة وأنا الآخر توقعت منها أكثر مما تستطيع هي أن تمنحني إياه، ولكن، ويا لحظي العاثر، لم أخرج من تجربتي معها إلا بالخيبة، أحتاج الآن إلى كتيبة بشرية لتجر ذيول خيبتي.

ثمة قوة غامضة قذفت بي إلى هذا الوجود، وأول ما اتضح لي من هذا الأخير: أنه وجود ملغّز، صعب، ومبهم. في الواقع أنه من المحال على المرء أن يعيش ولو ليوم واحد بدون أن تجتاحه أسئلة حارقة حول معنى الذات والله والحياة. الطابع الحارق لهذه الأسئلة الثلاث هو الذي أغواني للارتماء في أحضان الفلسفة التي لم أعتنقها عن حب وشغف بل فراراً من أزمة الوجود وضيق المعنى. خيبة أملي في الفلسفة هي أشبه بما حدث لرجل تعرف إلى امرأة فاتنة ومثيرة، فتعلق بها وظل يحوم حولها ووضع كل وقته قرباناً لها، ولكن بمجرد ما أصبحت معرفته بها تتعمق شيئاًً فشيئاًً بدأ يكتشف بأن تلك المرأة، رغم جاذبيتها، امرأة تافهة ترتدي سترة مثيرة من الجلد واللحم، وبأن كل سعيه وراءها كان سعياً وراء اللاشيء.

 أقل ما يقال عن أي نص فلسفي نموذجي/أكاديمي هو أنه أشبه بصحراء جليدية عارية. الآن لا أستطيع قراءة أكثر من بضع صفحات من الوجود والزمان أو الوجود والعدم، دون أن أنسحق تحت عجلات الشعور بالوحدة والتيه. ببساطة لا يمكنك أن تستمر في قراءة أي نص من هذين دون أن تشعر بذلك الغياب الصاعق للإنسان: لا مشاعر، لا تقلبات مزاجية، لا تناقضات، ولا رغبات تصارع بعضها بعضاً. عندما تغرق مثلاً في قراءة نص لكانط أو مارتن هايدجر لا يمكنك إلا أن تقف لحظة وتتساءل عما إذا كان النص يتعلق بإنسان (بالمعنى الروحي للكلمة) أم بآلة مفكرة. النص الفلسفي نص جاف وقاحل، وقراءته أمَرُّ من عبور الصحراء على إنفراد؛ لاشيء فيه إلا ذلك اللي الخبيث للكلمات واللعب البهلواني بالمفاهيم. وأول ما يعد به النص الفلسفي هو البحث عن الحقيقة والقبض عليها- إن أمكن ذلك- ولكن هذا النص – ويا للسخرية- لا يفعل شيئاً سوى التخلي عن أي حقيقة والبدء في إنتاج حقيقته هو: نسيج معقد من المفاهيم والتصورات المغرقة في التجريد تتخلله كل تلك العمليات المنطقية المعهودة. وماذا يكون حالنا مع الوجود بعد الانتهاء من قراءة كل عمل فلسفي كبير؟ لا شيء سوى المزيد من العتمة والضبابية.

 النص الفلسفي في مظهره يبدو عميقاً، ولكنه في حقيقته سطحي، جوهره فارغ. لك فقط أن تقوم بترجمة نص فلسفي إلى اللغة العاميّة الدارجة وسترى كيف سينهار ويتحول إلى ركام بلا معنى. لنقم فقط بمقارنة بين بوذا وهايدجر؛ كلا الرجلين تحدثا عن الوجود والعدم؛ عن الحياة والموت. لكن الأمير الهندي كان أوضح وأبلغ، فقد تحدث عن أمهات المسائل بكلمات مقتضبة في منتهى البساطة، وهي بسيطة إلى الحد الذي جعلها في متناول الكل؛ حتى آخر بقال في الجوار لا يمكنه أن يفوت ذلك العمق الذي تنطوي عليه. الأستاذ الألماني هو الآخر تحدث عن نفس المسائل لكنه- وهذا هو وجه العقم فيه- استعمل لغة أكاديمية، وهذا ما جعل نصوصه نخبوية وبعيدة المنال إلا عن الدوائر الأكاديمية المغلقة. يبدو أن كل ما يهتم به هايدجر فعلاً ليس الوجود في حد ذاته بل الطريقة التي يتحدث بها عن الوجود، وهذا ما يجعل النص الهايدجري- وهو النص الفلسفي بامتياز- نصاً تقنياً حيث تحل المفاهيم الإجرائية والمقولات المنطقية محل الكائن، وتتحول علاقاتنا بالوجود من معضلات وجودية إلى تمارين معرفية. يتأملون الفلاسفة كل كوارثنا الوجودية الكبرى- من كارثة الولادة إلى كارثة الموت وما يقع بينهما- ولكنهم يتناولونها كمتخصصين أكاديميين؛ فماذا تكون نتيجة هذا التناول؟ أنساق تجريدية معقدة وتراكيب مقولاتية لا توازيها في تدويخ الأذهان وإرباك العقول حتى متاهات ديدالوس. أي تقييم يمكن أن تمنحه لنص فلسفي كالوجود والعدم؟ لا شيء سوى أنه هذيان ما بعده هذيان. والحق أن النص الفلسفي طبق جذاب لكنه بدون ملح. وجاذبيته هذه لا تمارس سحرها إلا على التلامييذ الأكاديميين الذين يطريهم التغلغل في كل ما هو مجهول وغامض، ويسعدهم الانغماس في أسماء الأشياء عوضاً عن الأشياء نفسها.

 فيماذا يهمني كون الوجود الإنساني خاضع لإرادة المعرفة أو إرادة القوة؛ أو أنه وجود يسبق ماهيته؟! بما يهم إذا كان هذا الوجود هو الوجود الوحيد والممكن؛ أو أن يكون مجرد صورة شاحبة لوجود اخر ميتافيزيقي ومتعال؟! في رأيي أكبر خطأ وقع فيه الفلاسفة هو المبالغة المسرفة في وصف الوجود، كما لو أن مشكلتنا مع الوجود مشكلة معرفة. في الواقع، السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه علينا بإلحاح كصداع نصفي ليس "ما هو الوجود؟" بل هو "كيف نتحمل الوجود؟". نحن من ربحنا يناصيب الحياة، لكن مشكلتنا مع صدفة الوجود ليست مشكلة فهم بقدر ما هي مشكلة صمود. كل ما أعرفه الآن- وقد التهمت المئات من النصوص الفلسفية- لا يختلف عما اختبرته وأنا ابن الحادية عشر؛ لقد فهمت مبكراً بأن هذا الوجود وجود أصم، وأخرس لا يكترث بنا، ولن يبالي بنا حتى لو مزّق صراخنا عنان السماء؛ وفهمت أيضاً بأن كل حياة هي مسلسل من الانهيارات المتتالية، سقوط تلو الاخر؛ ولكن ما كان يعوزني دائماً ليس النظريات والمفاهيم والترسانة المعرفية، بل ذلك التوازن النفسي والروحي اللازم لمواجهة تلك الانهيارات: توازن يحول بيني وبين السقوط للسفح بجنون.

يتبع...

*عنوان التدوينة مقتبس من "كارل ماركس".

الخميس، 13 مارس 2014

أنبياء مقموعين

الله حظ النبي. 
~محمود درويش


لا ينعم مجتمع بشري بالسكينة والاستقرار إلا بقدر افتقاره إلى الأنبياء؛ في كل مرة تتصفح فيها جريدة ما أو تستلقي أمام الشاشة، إلا ويطل عليك وجه أحد من بني آدم كله رغبة وحماس في أن يعطيك دروساًً فيما يجب وما لا يجب. إنه مهووس بفكرة ما، وهذا كاف لكي ينغّص على الآخرين حياتهم. من خلال علاقاتي بالبشر، لم يسبق لي، إلا قليلاً، أن التقيت إنساناًً بدون ميول نبوية. كل فرد، بقالاًً كان أم فيلسوفاً، يزعم بأنه يمتلك تصورات واضحة جداً عما يمكن أن يعنيه الخير أو الشر؛ وما إن تجلس إلى أحدهم حتى يمرر لك انطباعاً بأنه نبي مقموع، وبأن الآخرين مصابون بلعنة الحرمان من وصفاته السحرية بالغة العبقرية حول السعادة الدنيوية أو الخلاص الأخروي. إنه يعتقد بأنه لمجرد كونه ثرثاراً يجب على الآخرين أن يزحفوا خلفه زحفاً.

 منذ موسى ونحن نرزح تحت عبء النبوة. بدأت الحكاية بعشر وصايا بسيطة لتتحول على مدى قرون من الزمن إلى أنساق ميتافيزيقية جبارة لا يوازيها في كثرتها الفاحشة إلا حالات فشلها الذريع في إيجاد حل لمشاكل الوضع الإنساني. من أين يأتي داء النبوة هذا؟! إنه يأتي من داء عميق: داء القيادة -الكل يريد أن يكون وصيّاً على الكل. ويأتي أيضاً من التقدير المفرط للذات: كل واحد منا يعتقد بأن وجوده في هذا العالم ترتيب إلهي أو ضرورة تاريخية، وبأنه ما جيء به إلى هذه الدنيا إلا رحمة بالعالمين. الإنسان لا يتحمل حياته الخاصة، لذلك يتملص منها بالتدخل في شؤون الآخرين. وبهذا نجعل من كل تجمع بشري جحيماً لا يطاق: الكل ينتظر دوره كي يقترح شيئاً ما أو يُصنّف شخصاً. إن المرء يدفع الثمن غالياً عندما يرفض العيش في الصحراء.

 من أين يأتي هذا الاكتساح من لدن الأنبياء لمجتمعاتنا؟ إنه يأتي من رفضنا لمحدودية الحياة -أي كونها لا تستطيع أن تعطي أكثر مما تملك- وربما يأتي أيضاً من رغبتنا الشديدة في بناء الفردوس هنا والآن، أو من العطش الشديد للمجد واحتلال مركز الأشياء. الإنسان الذي يبصر نفسه جيداً، لا يتجاوز أبداً الحدود المُشَكِّلة لحياته الخاصة، لِمَ عليه أن يهتم لوضع الآخرين وهو لديه ما يكفي ويزيد من العدم والعبث، ولديه موعد يومي مع صراع نفسي عنيف بين ما هو عليه (حدود إمكانياته الحقيقية) وبين ما يتمناه وما يفرضه عليه الواقع (المسموح)، مما يدفعه لوضع الكثير من الخطط والميكانيزمات، وذلك ليحافظ على توازنه النفسي وعدم الإنهيار إلى السفح بجنون. إن النبل بمعناه الأعمق لا يوجد إلا عندما يتموضع المرء على هامش الوجود. والحق أنه لو كانت للإنسان صورة واضحة عن لا جدوى وجوده، وعرف بأن العالم يسير دائماً نحو الأفضل عندما يحجم هو عن الانخراط فيه، لربما تحققت الفردوس على هذه الأرض.

 في مقابل كل نبي تقريباً يوجد نبي مضاد. لكل منهم فروضه التي هي على النقيض التام من طروحات الآخر؛ هذا يبشر بالحداثة وذاك بالخلاص وآخر بنهاية التاريخ، واللائحة تكاد لا تنتهي. كيف لأي شخص يتمتع بالتبصر ورجاحة العقل أن يعثر على ضالته في هذا الزخم المبالغ فيه من "الحقائق" التي يبشر بها الأنبياء؟! بمجرد ما تتبع واحداً منهم، تثبت على نحو لاشك فيه، انك لم تستوعب حقيقة ما يجري حولك. لا ينبثق نبي من هذا الوجود إلا وتزداد الأمور سوءاً، ولا يغادره إلا بعد أن يثقل كاهله بالمزيد من الرموز والتعاليم، ويحقنه بجرعة أخرى من البؤس والمعاناة. ميراث الأنبياء؟! حروب وأنهار من الدماء، وطوائف متناحرة، ومحاكم تفتيش، وأشباه قضايا، وأحقاد، وضغائن مضمرة، إنهم باختصار يتركون خلفهم- ويا لسخرية الأقدار- كل أسباب الجحيم.

 نحن لا ننفك أبداً نسير وراء هذا النبي أو ذاك؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنه قد مات فينا أشد ما يميزنا: الارتياب والقدرة على التهكم. وذلك أنه لولا عمى القطيع وتعلقه المرضي بأكذوبة الخلاص لما قامت لنبي قائمة. مراجعة خفيفة للتاريخ البشري، بما فيه من السخافات السوداء والهزليات الدامية، تبين للمرء بأن كل رغبة في لعب دور المنقذ والمُخلّص هي رغبة شاذة وتصرف غير ناضج للعقل.

***

 لا شيء يفضح عقم أفكارنا وضحالة تصوراتنا ولا جدوى سياساتنا في تدبير كياننا أكثر من البرامج الحوارية التي تعرض على شاشتنا. في الثلاث سنوات الأخيرة شاهدت من حين لآخر بعض البرامج الحوارية؛ مع الانتهاء من مشاهدة كل حلقة، لا أخرج بأي فكرة أو تصور خلّاق أو إشارة ذكية؛ كل ما يتبقى لي هو اضطراب في الرؤية أو تشوش في الذهن، ناهيك عما يرافق ذلك من استجلاب للكآبة وخيبة الأمل. البرنامج الحواري ملتقى لأربعة نماذج من المثقفين العرب: هناك القومي والإسلامي والحداثي وهناك المثقف المحسوب على دوائر السلطة وصنع القرار. رغم كل الجدل العقيم والنقاشات الحامية التي يثيرها هؤلاء المثقفون، ورغم كل الغيرة التي يبدونها إزاء الله أو الوطن أو الملك، فإن الخطابات الأيديولوجية لهؤلاء المثقفين تتكدس بالأوهام والمغالطات والمفارقات والتناقضات٬ ولا يوازيها في هذا الحجم من الخلط والعبث إلا تخبطات هؤلاء المثقفين أنفسهم.

الهوية

الهوية باختصار شديد مفهوم ميتافيزيقي يقوم على الاعتقاد بأن هناك ذاتاً قائمة مستقلة بنفسها، حاملة لمجموعة من الخصائص التي لا تتغير بتغير المكان أو الزمان. وبالتالي فإن كل ما يختلف عن هذه الخصائص أو يناقضها فهو غريب، دخيل، شائب، وغير أصيل وربما خائن. ولا غرابة في أن نجد هذا المفهوم مبسوطاً على كل صفحة من صفحات الخطابات الأصولية بنوعيها الديني والقومي. لا تكون النرجسية الدينية والعنصرية العرقية ممكنة إلا بالتغني بكيان هلامي مفترض، نسينا من كثرة ترداده على الألسنة وحفظه في الأذهان بأنه مجرد كيان افتراضي، نسميه مرة بالهوية الدينية ومرة أخرى بالهوية العربية ومرة بالهوية المصرية وهكذا دواليك... كلما ضاقت الدائرة وزاد التمركز على الذات بزغت هوية جديدة. هذا المفهوم يفرض عليّ أن ألتزم بمنظومة من الرؤى والمعتقدات والأخلاق/السلوكيات فقط لأنني ولدت ضمن الحدود الثقافية والسياسية لهذه المنظومة أو تلك. بالنسبة إلي لن أقف تحت أية لافتة ثقافية أو قومية ولن أندرج تحت أي عنوان مهما كان، وكل هذا للأسباب التالية: أولاً، لأنني شخص "فرد"؛ مما يعني بأن وجودي لا يمكن أبداً أن يختزل في رقم أو اسم أو أي شيء يقبل التنميط أو الترتيب أو التسمية. ثانياً، يريدني مفهوم الهوية أن أكون رهناً لشيء لم أختره فيما أنا أكره الارتهان والقولبة والخضوع والتشيُّؤ، إنني لا أتحرك على أرض الوجود إلا وفق استراتيجيات الاختيار والانتقاء والتذوق، وبالطريقة نفسها التي أختار بها طعامي أختار بها أيضاً أفكاري وتصوراتي. كل ما يسبب لي عسراً في الهضم أو يستثير في رغبة في الكسل والتراخي أبعده عن مائدتي.

 المثقف الديني هو الأطروحة المضادة لكل ما سلف ذكره. إنه يريدني أن أخضع نفسي لدين صحيح، مبين، صاف، حقيقي، لا وجود له إلا في مخيلته هو. وأنا أرفض هذا الطرح لسببين: أولاً، الدين ليس علماً دقيقاً (science exact) يمكن أن نتعامل معه بمعايير الصحة والخطأ أو القابلية للتحقق وعدم القابلية للتحقق (verifiability principle)، فمعظم القضايا المطروحة على الساحة الدينية هي إما أشباه قضايا (كصراعات السنة والشيعة مثلاً) أو اصطدامات مع حركة التاريخ تتجلى في توجهات صوفية خيالية وأخرى رجعية حالكة الظلام. ثانياً، إذا كان هناك شيء يمكن تسميته بـ"الإسلام الصحيح" على سبيل المثال ويمكن أن نكتبه بالحرف الكبير، فأي نموذج نختار من بين القوالب المعروضة أمامنا؟! هل نختار إسلام طالبان أم إسلام الإخوان المسلمين أم إسلام آبائنا وأجدادنا أم إسلام المعتنقين الجدد من أوربيين وأمريكيين وغيرهم؟ ما أفهمه من مصطلح "الدين" هو نسيج من القناعات شديدة الخصوصية والمسلَّمات وطرائق في الفعل والنظر تلونت بألوان الزمان والمكان وتشكلت باختلاف الذوات والإرادات. والنتيجة المباشرة المنطقية لتلك المقدمات هو أنه لا وجود لأي نموذج حضاري-تاريخي، مثالي، يتعالى على النقد والمساءلة.

 إرادة العقيدة أم إرادة المعرفة؟

لا يريدنا المثقف الديني أن نتعب، كل مشاكلنا ومآزقنا وسقطاتنا يجد لها هو الحل في الشعار التالي: "الدين/الشريعة هي الحل". هذا الشعار البرّاق، بالإضافة إلى قاعدة شعبية تتشكل من جيوش جرارة من المتعصبين والبائسين والبسطاء، مما يدفع المثقف الديني إلى تصدر واجهة الحدث والخبر مما يوهم العامة من الناس بأنه سبيل خلاصهم (المخلِّص) أو المهدي المنتظر. لكن تاريخ الفكر علَّمنا بأن الأفكار الكبرى لا تقاس بمدى تسويقها شعبياً ولدى الجماهير أو بمدى سيطرتها على المشهد الإعلامي، بل تقاس بمدى تطابقها مع القوانين الكونية وسنن الحياة. وإلا أصبحت رجعية بالمعنى المعرفي للكلمة. إنه يريد منا أن نضرب بعرض الحائط كل التراكمات الحضارية التي تحققت في أساليب الفكر والكشف والنظر والمعالجة، وأن نعود في شكل حركة تاريخية عكسية إلى أساليب القرن السابع الميلادي. وفي الواقع أنه لا وجود لحوار فكري-نقدي ممكن معه؛ لأنه شخص تسيطر عليه إرادة العقيدة أكثر من إرادة الحق والمعرفة، ولاعتقاده بأن كل الأجوبة عن الأسئلة الوجودية لا توجد إلا بين دفتي كتاب مقدس أو في تفاصيل سيرة ذاتية كريمة، فإنه لا حاجة له في أن يتكبد مشاق النظر وجهود الفكر.

 نظرية المؤامرة

 يرد أغلب المثقفين العرب كل شرور العالم إما إلى الشيطان فهو المشجب الأقرب ليعلقوا أي شيء يفشلون في احتوائه ومواجهته وإما إلى اليهود فالعداء معهم مقدس، بل في أغلب الأحيان لا ترد إلا لهؤلاء. كل زلزال اجتماعي عنيف هو من صنع اليهود وكيدهم، سواء تعلق الأمر بإصلاح المناهج التعليمية، أو مدونة الأحوال الشخصية أو بحقوق الأقلية، حتى ميل الشباب إلى موسيقى مثل الروك أو الميتال هو صناعة يهودية بامتياز!! والحق أن مفهوم "اليهود" في الخيال العربي بشكل عام هو من الاتساع والمرونة بحيث يمكن أن يحوي كل ما هو غريب، نجس، شيطاني، مارق، ومرتد. ولذا فهو يتسع اتساع الكون للخونة والكفار والمسيحيين والعملاء والمخالفين في الرأي والعقيدة، والفلاسفة بكل ألوانهم واتجاهاتهم، بل إنه يتسع حتى لبعض المسلمين أنفسهم! والحق أن سيطرة نظرية المؤامرة على الخيال العربي -الديني على وجه الخصوص ليست جديدة، فهي تعود إلى أيام عبد الله بن سبأ وما فعلته هذه الشخصية الأسطورية بدين المسلمين، مروراً بأقطاب الأصوليين القدامى كالغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وحربهم على العلوم الدخيلة، تم انتهاء بالأصوليين الجدد الذين يكادون يمزقون حناجرهم بمحاضراتهم حول الغزو الفكري وصدام الحضارات. والحق أن الأفكار الخلاقة التي توافق قوانين النفس وتتلاءم و نواميس الكون لا تغزو بلداً ولا تحرق شجراً ولا تفسد بشراً، وما نسمع به من "غزو فكري" و "صدام حضارات" إنما هو في حقيقته غزو أصوليات و صدام جهالات. من وجهة نظر نفسية، لا تسيطر نظرية المؤامرة إلا على العقول الضعيفة والنفوس العاجزة. عجزها عن مواجهة التحديات وارتباكها أمام القضايا والإشكاليات يدفع هذه النفوس الضعيفة إلى تعليق عيوب الذات على مشجب الغير.

 النقد الفعال أم النقض الهدام؟

 لا همَّ للمثقف المصري خاصةً الذي يحضر حلقة من حلقات الحوار إلا إظهار محاوره بمظهر الجاهل والسطحي. مهما أطال المحاور في القول واستفاض في الشرح فإن الآخر لا يتكلف حتى عناء الإنصات والمشاركة، بل إن كل ما يُحسن فعله هو تقييم طروحات غيره في أحكام قيمية لا تقوِّي فهماً ولا تزيد علماً. يكفي فقط أن تتفحص ملامح أحد المتناظرين أو تنظر إلى الهيئة التي يتموضع بها على الكرسي لكي تستنتج بأن الرجل لا يهمه رفع التباس عن قضية ولا إلقاء مزيد من الضوء على إشكالية. والحق أن النقد بالمعنى الكانطي للكلمة مُعْدَمُ الممارسة في حلقات تلكم البرامج. وللذين لا يعرفون معنى النقد الكانطي نقول بأنه نقد لا يرمي إلى هدم أو دحض أو كشف عورة، بل هو تقليب القضية من كل وجوهها لتحديد إمكاناتها وحدودها، أي نقاط قوتها ومكامن ضعفها. والنقد بهذا المعنى هو شريان الحياة بالنسبة للأفكار الكبرى من ديموقراطية وعلمانية وعلوم طبيعية وأخرى إنسانية. والنقد بالمعنى العلمي هو فحص النظريات واختبار الفرضيات، وبالمعنى الفلسفي هو تفكيك المقالات وإلقاء الضوء على تناقضات الأيديولوجيات والشعارات، أما على الصعيد الوجودي فالنقد كما أفهمه وأؤوله هو اجتراح تقنيات مبتكرة في التفكير والتعبير، وفتح أراض واسعة للنظر والمساءلة، ناهيك عن خلق قنوات جديدة للتحاور مع الوجود والحقيقة أو مع الذات والعالم.

 نرجسية المثقف

للمثقف شخصيتان، شخصية دعائية مدعية للتسويق واصطياد الأشياع والأتباع، وتتشكل هذه الشخصية من التوجه الأيديولوجي و" التحصيل العلمي" و" الرصيد الفكري"؛ وهذا كله يمثل، للأسف، كل ما هو سطحي ومضاف إلى شخصيته الحقيقية. وهناك الشخصية الأساسية التي تمثل أسوء ما فيه؛ أي أنها تتشكل من مجموع الترسبات والتراكمات التاريخية التي تميز الثقافة الشرقية باستبدادها و تعصبها. و الحق أن خطاب المثقف العربي يقدم هذا المثقف و كأنه مدافع عن الملة أو منافح عن العقيدة أو حارس للحقوق والقيم، ولكن هذا كله ليس إلا ظاهر خطابه، فيما عمقه ينطوي على أشياء مضادة مطلقاً لكل ما يدعو إليه. فالمثقف الإسلامي، مثلا، يرفع شعار "لا حكم إلا لله"؛ وبهذا الشعار يمارس المثقف الإسلامي من المكر و التلبيس ما لا يتفطن إليه الكثير من الناس. وجه المكر والتلبيس هنا يكمن أولاً في أن هذا المثقف يحجب "طبيعة السلطة وإنسانيتها"، ويكمن ثانياً في أنه فيما يدعوك إلى التوبة أو التسليم أو الرجوع إلى الحق والأصول، فإنه في الحقيقة لا يمارس عليك إلا سلطته هو؛ أي أنه لا يفرض عليك إلا تصوره وفهمه وإرادته. وهذا هو شأن الدعاة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فما يظهره الداعية هو الدفاع عن الحق والخلق أو حراسة الذاكرة والهوية لكن ما يخفيه هو أنه يدافع عن تأويله هو للكائن والكينونة أو فرض ذاته وكيانه على الآخرين، ناهيك عما يترتب عن ذلك من تصرفه إزاء غيره كنبي أو مهدي أو مخلًِص.

 جموح الإسلاميين وارتباك الحداثيين

 رغم كل التعصب والانغلاق والتمركز والتعالي والنرجسية والاصطفاء الذي يظهره الإسلاميون إزاء المختلف عنهم في الرأي والعقيدة فإن لهم بعض المحاسن التي يحمدون عليها، ومن بين هذه المحاسن الوضوح والجسارة. يكمن وضوحهم في أنهم لا يريدون منهجا حضارياً بديلاً عن الإسلام. الإسلام ولا شيء غير الإسلام. إنهم واضحون إزاء كل شيء من الديموقراطية إلى الموسيقى. بأي منبر من منابرهم تحل لن تسمع إلا المواقف نفسها: الديمقراطية كفر وإلحاد، العلمانية دعوة للفسق والمجون، الفلسفة تغريب وزندقة، أما الرسم والموسيقى فهما بدعتان من بدع عزازيل. هذا هو وضوحهم، أما جسارتهم فتكمن في ضربهم بعرض الحائط كل المواثيق الدولية والمعاهدات الكونية. كل النماذج الحضارية، أكانت نماذج يابانية أم كندية أم سويدية لا تساوي عند أصوليينا الجدد جناح بعوضة. أما أمر الحداثيين فإنه يدعو إلى الشفقة. مقولات الحداثة وتصوراتها حول الحرية والفردانية تستهويهم أيما استهواء لكن المساكين لا يملكون ما يكفي من الجرأة و الجسارة للقيام بقطيعة معرفية مع تراثنا القروسطي بقيمه البدوية الخانقة وأعمدته الإجتماعية والثقافية المتهالكة. خوفهم من أن يُتهموا بالإلحاد والتغريب والارتداد يدفعهم إلى خلق خطاب ملفق هجين لا هو بإسلامي صريح ولا هو بحداثي خلاق مجرد خطاب هلامي. حداثيونا يريدون أن يقوموا بعملية جراحية حضارية شبه مستحيلة؛ إنهم يريدون أن يؤسسوا نظاماً ديمقراطياً لكن بدون أن يمسوا شيئاً من سلطات الملك! مجاملات الحداثيين ودغدغتهم لمشاعر الإسلاميين تجر هؤلاء الحداثيين إلى خوض معركة التحديث والإصلاح بموازين ليست في صالحهم؛ ذلك أنه عندما يعلن الحداثيون بأن الحداثة بفلسفتها التحررية وديمقراطيتها وعلمانيتها لا تتعارض وجوهر الإسلام، فإن هذا الموقف بالذات هو ما يصيبهم في مقتل. يرد الإسلاميون، وهم محقون في ذلك، على الحداثيين قائلين لهم " بما أن الحداثة، كما تزعمون، لا تتعارض في شيء مع ديننا الحنيف، فلماذا إذن نترك ما هو متجذر متأصل في ثقافتنا ونستنبت فيها ما هو غريب و دخيل عليها ؟ !".

 بوق النظام

 لا جديد عند مثقفي السلطة في وطننا العربي، إنهم لا يجيدون إلا المدح ومسح الأحذية. لا يفتح مثقف السلطة عندنا، فمه إلا في ثلاث حالات: إما ليتغنى بمنجزات هذا الملك أو ذاك الزعيم وإما ليُشيطن معارضي النظام المحسوب عليه أو عند طبيب الأسنان. كل ما يوجد في أوطاننا من بؤس، واحتياج، وأمية، ولا مساواة، وتخلف، وقلاقل هو في نظر مثقفي السدة العالية إما من فعل "الخونة" أو "المرتزقة" أو "العملاء" أو "الحاقدين". وعندما تطلب منهم تفسيراً لتلك الفضائح التي يخرج علينا بها أسيادهم بين الفينة والأخرى، والتي تأخذ مرة صورة توريث للحكم أو نهب للمال العام ومرة أخرى صورة تعديل لا دستوري للدستور أو تضييق على الأشخاص أو الأفكار أو الحريات، يجيبونك بمنطقهم السفسطائي المتهافت الذي لا يكاد ولو لمرة واحدة، يخلو من المقدمات المتهافتة والتبريرات الواهية والكذب السافر. و لا عجب في الأمر، فلا شيء أكثر وضوحاً وأهمية بالنسبة لمثقف السلطة أكثر من علاقة المصلحة التي تربطه بالنظام السياسي المحسوب عليه، كلما كان النظام أكثر سخاء زادت استماتة هذا المثقف في الدفاع عن هذا النظام. و الحق أن مثقف السلطة في وطننا العربي، وبالرغم من كل مآخذنا على ما يظهر منه من نفاق وازدواجية وتملق، قد أثبت بأنه جدير ليس بالدفاع عن هذا الزعيم أو ذاك السلطان فقط بل يمكنه أن يدافع حتى عن الشيطان ! و مهارات مثقفي السلطة لا تخفى على أحد، فعندما يبدؤون في التحدث عن المنجزات التي حققتها أنظمتهم، على قلتها ومحدوديتها، تجدهم ينفخون في النسب والأرقام والمعدلات إلى الحد الذي يجعلك تتساءل مع نفسك ما إذا كنت تعيش في السويد أم في بلد من بلدان العالم الثالث! وأما عندما يتطرقون للتحديات والمسؤوليات الجسام التي يجب أن تنهض بها أنظمتهم، فإنهم لا يفعلون أكثر مما كان يفعله بروكوست: تقزيم الأحداث وبتر الوقائع وتشويه الحقيقة والتاريخ. والحق أن تناقضات مثقفينا العرب بكل أطيافهم تضع المرء في حيرة من أمره، فهو عندما ينظر في تخبطاتهم في القول والفعل، ناهيك عن ألسنتهم البديئة ومنطقهم الأعوج، لابد أن يتوقف لبعض الوقت حتى يلتقط أنفاسه و يفهم ما يجري بالضبط على بلاتوه البرامج الحوارية: هل الأمر يتعلق بنفاق سياسي، أم بانفصام في الشخصية، أم بنقص في الذاكرة، أم بضعف في البصر والبصيرة؟ أم ماذا؟!

 التلفزيون في تصورنا المشترك أداة للترفيه والتسلية، و لكن يمكننا أيضا أن نجعل منه أداة للتثقيف والتنوير. وهذا ما لا تفعله الأغلبية الساحقة من قنوات تلفزيوننا العربي، بل الأنكى من ذلك أنها لا تفعل إلا العكس: تسطيح فكر الإنسان العربي و تبليد حسه بإغراقه في بحر من البرامج التي لا تُعنى إلا بالفنون الواطية والصناعات الهابطة. قنوات هز البطون وقنوات الدعاة والداعيات لا تختلف إلا في المظهر واللغة، أما من حيث التصور الكوني والأيديولوجي فهما توأمان سياميان؛ كلها قنوات تريد تقزيم كيان الإنسان في كائن تافه، بهيمي، مكبوت، عصابي، لا يسكنه إلا نزق الشهوة أو الإحساس بالذنب والخطيئة.