الخميس، 5 سبتمبر 2013

ضجر سيزيف

يوماً ما ستدرك أن السبب الأهم لإعجابك الشديد ببعض الأشياء، هو جهلك التام بتفاصيلها.



 شدة الإدراك أحياناً تبدو لعنة لا تتلاءم والسير الطبيعي للحياة؛ ذلك أنه كلما ازدادت رؤيتنا للأشياء اتساعاًَ، كلما ضاق معها معنى الحياة. من أصغر طفل فينا إلى أكبر فيلسوف. عندما تتولد لدى الطفل فكرة واضحة غير ضبابية عن الميكانيزمات التي تعمل بها لعبته ويبدأ تفكيكها قطعة تلو الأخرى يزول لديه على الفور أي شغف بها. نفس الشيء ينطبق علينا، نحن الكبار، عندما نكتسب معرفة عميقة بالتكتيكات والخيوط التي تحرك هذه اللعبة الكبيرة التي تسمى بالحياة.

حيوان رومانسي

 التأمل المفرط والمطول بمكونات الحياة ومجرياتها يحيلها إلى عدم. لننظر، مثلاً، في الحب: إشراقاته تنافس شطحات المتصوفة وانخطافات الموسيقى؛ إنه يتجلى كأعظم شعور إنسي على الإطلاق، لكنه، في العمق، يخضع لإنقباضات المسالك البولية ومستويات التستوستيرون في الدم. فعندما تتراخى تلك الانقباضات ويضعف تركيز الهرمونات، تخبو فورة الحب ويصبح موضوع اقتراب الجنسين من بعضهما بعضاً غير مفهوم بالمرة. إذن، يكفي القليل من الموضوعية والتجرد ليكتشف المرء بأن كل تلك الحرارة والاحتدام، اللذين يأخذان من السرير مسرحاً لعملياتهما، لم يكونا سوى استراتيجيات بيولوجية لضمان استمرار النوع.

 لا يقع الإنسان في الحب لأنه حيوان رومانسي فقط، بل لأنه يخاف الوحدة. عندما تنظر إلى زوج يعشق بعضهما بعضا، فاعلم أن القصة بينهما تتعلق بكائنين وحيدين يحاول كل واحد منها الذوبان ونسيان ذاته عبر الغرق في ذات الآخر. خواء الوحدة خواء قاتل والاكتفاء بالذات أمر مستحيل، فنحن نحب ذواتنا التي تتجلى من خلال الآخرين؛ لذلك لا يوجد رجل واحد لا يهرع إلى الارتماء في أحضان المرأة. وحده خفقان الأفئدة ينتشل المرء من وطأة الضجر الكوني؛ فيضفي على الوجود بعض المعنى ويؤثث زواياه الفارغة. ولولا الطابع الحزين للوجود لما تجاوز الحب مستوى كونه تمرينا جنسياً؛ فالحب لا يكتسب عمقه إلا من كونه نوعاً من الشفقة المتبادلة. لماذا يجب علي أن أحب شخصاً يسير في الحياة بخطى ثابتة؟! هل هو بالفعل في حاجة إلى دعم الحب ودفء العاطفة؟! المرأة الجميلة والناجحة تثير إعجابي، لكنها لا يمكن أبداً أن تخترق قلبي؛ فكلما كانت المرأة جميلة وتثير اهتمام الآخرين، كلما انغلق قلبي تجاهها. لا أحب المرأة إلا إذا كانت وحيدة أو كانت من أولئك اللواتي دهستهن الحياة وظلمتهن الطبيعة بمنحهن وجوهاً لا تتمتع بالسيمترية والجمال المؤسسي الفاقع، فأصبحن يعشن على هامش دائرة الرجال والآخرين. الحب إما أن يكون ممارسة عزائية أو لا يكون. فقط عندما نمارسه لأجل مواساة الآخر ومسح دموعه؛ يتفوق الحب عندئذ على تكتيكات الطبيعة وميول الجنس، فيتوج نفسه أحياناً بالتضحية والإيثار وهذه هي أكثر التفكيكات الموضوعية للحب.

***

 العقل يفضح ألاعيب الحياة ويعريها. ولو افترضنا أننا كائنات عاقلة إطلاقاً، لكنا قد قدمنا استقالتنا من العالم منذ بدء الخليقة. وإذا كنا لا نزال لحد الآن نملأ هذا الكوكب لغطاً وضجيجاً، فالفضل في ذلك يعود إلى حرارة الرغبة وعماء إرادة الحياة؛ بدونهما يصبح القلب الإنساني مجرد عضو أجوف لا يثير إلا اهتمام الأطباء. إذن، فما يدفع المرء إلى التحيز إلى هذا الطرف أو ذاك لا يعود إلى ذكائه أو ثقافته بقدر ما يعود إلى شغفه أو تعلقه بالموضوع؛ فالشغف هو الذي يطمس شكوك العقل ويدفع تحفظاته العدمية، ويُمكِّننا من الاندماج مرة أخرى في حماقات القطيع. وهكذا، فالواحد منا لا يمكن أن يكون عاشقاً وفيلسوفاً في نفس الآن؛ ذلك أن تفكيكات العين الفاحصة لا تتلاءم و هيامات القلب النابض. الذي يحب لا يتساءل أبداً لماذا يحب، والذي ينغمس في مشروع ما لا يتوقف أبداً ليتفكر في دلالة معنى ما يقوم به: فحالما يبدأ المرء في تأمل حبه لهذا الشيء أو ذاك، يجد نفسه وقد قذف به خارج التجربة ويصبح موضوعه كتأمل دواة حبر فارغة، إنه لم يعد عاشقاً على الإطلاق، لقد أصبح، الآن، محلّلا نفسانياً. هذا إذاً، هو الحب: أطروحة مضادة للمعرفة ومولِّد لأكبر الأكاذيب التي شهدها التاريخ البشري. وكل خطوة إلى الأمام في الحب تساوي خطوة إلى الوراء على مستوى النزاهة الفكرية والحياد الواقعي.

 من وجهة نظر موضوعية، لا يوجد خير ولا شر، لا جمال ولا قبح؛ والذي يتمكن من التعالي عن المذاهب والإيديولوجيات والتجرد من الأهواء والأحكام المسبقة سيرى الأشياء كما هي في حد ذاتها-شديدة التجريد؛ أي العراء التام والبساطة الكاملة. التعدد الذي يطبع العالم والتراتبية التي تحكم أوصاله ما هي إلا أوهام تعشش في العقول الضيقة وأشباح تسيطر على القلوب الضعيفة. يكفي فقط أن يعلّق المرء حماسه لبعض الوقت وسيرى بأم عينه كيف سيتفكك أمامه العالم وستهوى معظم الأشياء إلى السفح بجنون، وكيف سيتساوى الشيطان مع الملاك، والباطل مع الحق، والعدم مع الوجود. باختصار، كلما تأمل المرء الأشياء بقلب جاف وأعصاب باردة سيظهر له العالم في حقيقته الخفية: مستوى مسطح بل عمق وبلا ارتفاع.

 لا يحسم اختياراته في هذا العالم إلا المتعامي أو الذي لم يسبر غور الأمور جيداً. من ينظر مليّاً في كل الأوجه الممكنة لأمر من أمور الحياة، لابد وأن يصاب بالجمود؛ سيظهر له بأنه ليس هناك توجه أفضل من توجه آخر، أو اختيار أصوب من اختيار ثان، كل شيء متماثل؛ هكذا سيكون استنتاجه الأخير وهو ينظر إلى العالم في شموليته. بصره الثاقب يجرّد الظواهر من كل ادعاء بالواقعية، ويفضح الصورة الحقيقية للحياة: أنها بالنسبة له، مجرد مملكة من الأشباح.

 كل إنسان يبدأ الحياة بالشغف ثم ينهيها بالشعور بالضجر. بمجرد ما يخطو المرء أولى خطواته في هذا العالم تترسخ لديه القناعة بأن هذه الحياة معين لا ينضب من الفرص والإمكانات؛ ولكنه حالما يبدأ يتعمق تدريجياً في الأشياء، تأخذ رياح الضجر في الهبوب، وتبدأ قناعة أخرى تلوح في الأفق: لا فرق جوهري بين الفعل واللافعل، بين السطح والعمق. منذ طفولتي، وإلى الآن، وتجربتي مع الزمن تجري بين الانغماس التام أو الانتظار المميت. لازلت أذكر كيف كنت أشغل نفسي بنشاط طفولي، ولكن ما كانت تمر ساعات قليلة حتى كان يجتاحني الإحساس بالخواء فأرمي بكل شيء جانباً وأنزوي في مكان ما منتظراً أن تحصل معجزة أو شيء كذلك. كانت هذه أول تجربة لي مع الضجر، وكان هذا هو أول شعور فلسفي لدي بخواء الأشياء.

 فيما مضى كنت اعتقد بأن البؤس مشكلة اقتصادية، لكنني عندما أنظر، الآن، جيداً في وجوه أبناء الطبقات الميسورة تتكون لدي القناعة بأن البؤس الإنساني هو أعمق بكثير مما نعتقد. عندما تنظر جيداً في تلك الوجوه تجدها تقول لك بأنها جرَّبت كل رغبة، وأشبعت كل نزوة، وبأنها تملك كل شيء إلا حلاً لمشكلة الضجر. والحق أن من يبحث عن حل لمشكلة الضجر كمن يبحث عن حل لمشكلة الوجود في حد ذاته. في هذه الأيام، عندما تشتكي من الضجر أمام الناس، تجدهم ينظرون إليك بعين الريبة معتقدين أن ما تحس به من ضجر مرده إلى كونك إنساناً كسولاً أو لأن حياتك اليومية تفتقر إلى التنظيم والبرمجة. ولكن الضجر الذي يجتاحني في كل يوم وليلة لا علاقة له بأي واحد من هذه الأسباب؛ إنه ليس بذلك الضجر الذي يمكن أن تقضي عليه بالانخراط في عمل جاد أو نشاط مسل؛ إنه ضجر يمتد لشهور وسنوات، ضجر عميق.

 أحياناً، أكون منغمساً حتى الأذنين في نشاط خلاق، أو مجتمعاً ببعض الأصدقاء، أو أكون متأملاً لمنظر طبيعي، وفجأة أبدأ استشعر نوعاً من الخواء يتسلل إلى روحي، إنه خواء ينزع عن الأشياء من حولك كل معنى وجاذبية فجوة عدمية تبتلع كل معنى للوجود؛ فتختزل، بذلك، قيمة الوجود إلى مستوى الصفر، ولا يعود عندئذ يهمك أي شيء آخر إلا إيجاد إجابة لسؤال: "ما المغزى من وجودي هنا في هذا العالم؟!". مَر عليّ زمن كنت أجاري فيه الحياة في كل شيء، كنت أتأرجح بين هذه الرغبة وتلك، وأقفز من نزوة إلى أخرى، ولم أكن أعرف حتى بأن للضجر وجوداً. وكيف كان لي أن اعرف بوجوده وأنا لم أنزل إلى أعماق الأشياء بعد ؟! إن الأشخاص الذين لا يضجرون هم بشكل بسيط مجرد أطفال مازالوا غارقين في البعد المادي للوجود ولم يبرحوا سطح الأشياء بعد.

 أستطيع أن أقيس اليقظة الفلسفية لكل رجل من خلال موقفه من مشكلة الضجر؛ فكلما كان الرجل يعتبر الضجر معطى وجودياً لا فكاك منه، كلما أثبت بأنه رجل قد خَبَرَ الأشياء وعرف طبيعة الأمور. ولكن أغلب بني الإنسان لا يتفاجئون من شيء آخر أكثر من تفاجئهم من وجود الضجر؛ إنهم لا يكفُّون في سلوكياتهم وأدبياتهم عن النظر إليه كخطأ في نمط العيش؛ فتراهم بذلك يهرولون لفعل أي شيء لتفاديه أو حتى قطع دابره. ولكن موقفاً كهذا من الضجر ينم عن سذاجة ميتافيزيقية وأحكام مسبقة تتجلى في اعتقادنا بأن للحياة مضموناً أو معنى ما، فيما الحياة، على ما تبدي لنا التجارب، لا تتضمن أي معنى ولا تسير نحو أية وجهة. وعندما أشير إلى الحياة، فإنني أعني بها هذا التدفق الجارف من الرغبات الفوَّارة والدوافع العمياء التي تتابع وفق إيقاع سريع لا يترك للإنسان أي لحظة ليسترجع أنفاسه؛ فلا يخرج هذا الأخير من غمار رغبة ما حتى يجد نفسه ملزماً بخوض غمار رغبة أخرى؛ ذلك أنه لا أحد يستطيع أن يقيم في الفراغ الفاصل بين الدوافع والميول، إنه فراغ قاتل ولا تتحمله إلا نفوس قليلة.



 في إيقاع وجودي كهذا، لا يمكن للمرء إلا أن يكون حيواناً بائساً يعيش حياة تأرجح لا يهدأ. تأرجح بين دفع الأهواء وجاذبية الأشياء من حوله؛ وحالما يهدأ كل هوى وتنطفئ كل رغبة يسقط  في الفراغ المطلق للضجر.
 ما من شك في أن كل إنسان يدب على هذه الأرض إلا وقد مر بتلك اللحظات التي يتوقف فيها كل شيء عن الحركة ويخضع العالم لجمود رهيب، وما من امرئ إلا ويعرف شيئاً عن تلك الطريقة التي يتجلى بها الزمن في أيام العطلات والجمعة أو ما بعد الظهيرة؛ فخلال لحظات زمنية كهذه، وهي نماذج مناسبة للتأمل والانعكاس على الذات، يستشعر على نحو شديد: الثقل الماحق للانهائية الزمن، ويسمع على نحو حاد التكتكة البطيئة لعقارب الساعة؛ إنني اتحدث هنا عن زمن يطبعه الضجر ويلفُّه الخواء وتنتفخ فيه كل ثانية إلى أن تصبح حدثاً مستقلاً بذاته؛ أما الدقائق والساعات فتصبح مسرحاً لأهوال وعذابات لا تطاق.

حينما تتجمد الدقائق والساعات، ولا تعود الأيام تتقدم بأكثر من سرعة السلحفاة، كيف لا يمكن عندئذ للوجود أن لا يفقد كل معنى ومصداقية؟! وكيف، إذاً، لا يمكن للمرء أن يتساءل عن المغزى من كل هذا الركض وراء المثل والأهداف؟! وما الفائدة من البحث في هذا العالم عن كل تشكّل أو تغيير؟! إن هذه الأسئلة الحارقة هي ما يمثل الجانب الميتافيزيقي من الضجر، والإنطراح المفاجئ لها يكشف عن بعد آخر للحياة ما كنا لنستشعره من قبل: بُعدها السيزيفي. في بعد كهذا، يصبح الانتقال من يوم لآخر عملاً عبودياً لا يحتمل، أما الحياة فتصبح دورة طويلة من الانتظار العبثي. هذا ما يمكن أن يختبره المرء في واضح النهار، أما عندما تغزوك مثل هذه الأحاسيس والأسئلة بالليل؛ حيث يكون المرء بمنأى عن صخب العالم وضوضاء البشر، فإن فعل الوجود في حد ذاته يأخذ بعدا مزدوجاً يلامس فيه الشعور بالعجز عن مواصلة الانخراط في سخافات الحياة والإحساس بالعزلة المطلقة والتيه اللانهائي. إن المرء، هاهنا، ليجد نفسه وجها لوجه مع الزمن في صيغته الجافة، بحيث لم يعد على الإطلاق بذلك الفضاء المؤثث بالأهواء والمكاسب والطموحات، إنه لم يعد إلا حالة من الفراغ المطلق مطعَّمة بمشاعر اليأس والإحباط.

 لطالما عرَّفنا الإنسان بأنه حيوان صانع، ولكن الإنسان لا يكون صانعا إلا لأنه يتوهم بأن لهذا العالم وجوداً حقيقياً، إذ يكفيه فقط أن يحافظ على مسافة بينه وبين أشيائه ليرى بطلانها التام. إنه كائن حبيس أهوائه وتصوراته، ولو تسنى له أن يُعلِّق ميوله ونزواته لبعض الوقت، لكان بإمكانه أن يرى كيف سيتحول كل شيء إلى جماد. إن الحياة بكل مقوماتها الحسية والجمالية ما هي إلا نتاج لإفراطات الخيال وهذيانات الروح وتوترات الجسد. فقط تعطيل مؤقت لغرائزنا يحول الحياة إلى حكاية ضاربة في الضجر غارسة في الملل؛ وبدون حرارة الليبيدو يصبح العالم صقيعاً مطلقاً. وهذه هي قصتنا مع الحياة التي لا نتحملها إلا بقدر ما تفرزه قلوبنا وعقولنا من أشكال الشغف والهلوسة.

 الوجود عارِِ، والإنسان لا يمكنه أن يستمر بدون مكاسب مادية أو طموحات مستقبلية؛ فهذه الأخيرة هي ما يشكل ديكور الحياة. ويكفي القليل من اليقظة الأنطولوجية ليستيقظ المرء من سباته الميتافيزيقي فيطلع على وضعه الوجودي الحقيقي: العراء. ولهذا السبب، لا تجد إنساناً واحداً على وجه هذه الأرض لا يعانق فكرة أو مثالاً ما. فنحن نؤمن بالعالم الخارجي حتى ننسى عالمنا الداخلي، أي ذواتنا. هكذا تجدنا ننغمس في الأعمال ونكرس كل جهودنا وطاقاتنا في تشييد الصروح وإقامة الآلهة، وكل هذا لأجل شيء واحد: قتل الوقت.

 لا شيء أثقل على قلب الإنسان من عطلة مطلقة يعيشها بلا متع ولا تسليات ولا حتى بعض المشاكل والمشاغل؛ وإن كان لكلمة الجحيم من معنى فهو عندما تفقد الحياة تأثيرها الإيروتيكي فتتحول إلى أرض جدباء يدب عليها كائن فارغ من كل هوى واندهاش. ولأجل هذه الاعتبارات، أجد نفسي دائما منجذباً إلى معشر الكسالى والعاطلين؛ فهؤلاء يعرفون أسراراً وجودية لا يعرفها المنشغلون من أصحاب الجهد والكد أو المخدَّرون بالمطامح والمطامع. فكونهم لا يتوفرون على وظيفة يشغلونها وتشغلهم، تجدهم يدخلون في حوار مباشر مع الأشياء؛ وهذا يمكّنهم من تأمل التدفق الرتيب للزمن والانشغال المرضي لأشباههم من البشر بشئون الحياة. من بين بني الإنسان جميعاً، وحده الشخص الكسول الذي لا يزال بريئاً؛ فإحجامه عن فعل كل خير أو شر، ورفضه الانغماس في غيبوبة الحياة العملية، يوفر عليه التورط في جريمة قتل الوقت أو الهروب من مواجهة الذات. وموقفه الفلسفي،هذا، من الأشياء مكنه من تبوأ مكانة المتفرج الكوني على سخافات البشر، وجعله المراقب الأعلى لتمظهرات الخواء واللاّجدوى في حياة كل واحد منا.




 إذا كان أصحاب الفلسفة الوجودية يعتبرون الضجر كوعي بالانفصال الجارح للكائن عن كيانه، فإن النسّاك والزهاد من أباء الصحراء كانوا يعتبرونه الطريق التي تؤدي مباشرة نحو الشيطان. ففي الوقت الذي يكون الناسك يقضي فيه دورة الزمن بين صوم بالنهار وصلاة بالليل، كانت بين الحين و الآخر تتسلل إلى قلبه أحاسيس وهواجس يمتزج فيها الكلل بالملل، والإحباط وعدم الرضى باليأس، ولطالما صورنا الناسك في لوحاتنا الفنية ينظر من نافذة صومعته إلى العالم الخارجي وكأنه يترقب مجيء أحدهم. إنها لحظات شك يُسائل فيها الناسك مغزى عزلته في قلب الصحراء؛ وهي أيضا لحظات غواية، فالإسكندرية بصخبها ومفاتنها لا تبعد عنه إلا مسافة يوم سيراً على الأقدام.




 في الحقيقة نحن لا نستمر في الحياة إلا بقدر ما يوجد في عيوننا من الغبار؛ ذلك أن التبصّر المطلق يفصلنا عنا وما حولنا والمجتمع؛ فنحن كلما تعمقنا في غياهب النفس وأسرار القلب، كلما قل عدد أولئك الذين يمكن أن نتواصل معهم؛ كما أن السير الطبيعي للحياة لا يمكن أن يتم بدون حد أدنى من العفوية و اللاوعي. وهنا يظهر جليّا الطابع الدرامي لحياة كل إنسان يتمتع بقدر كبير من الصحو الفكري و نفاذ البصيرة: إنه إنسان لا يستطيع أن يندمج في الحياة على نحو ما يقوم به باقي البشر؛ موضوعيته المطلقة ترغمه على البقاء على هامش الوجود؛ نظره المنفصل لا يفرق بين حديقة من الأزهار وحقل من الأشواك؛ ذهنه المتوقد يمنعه من التحيز إلى أي طرف من أطراف المجتمع، وكيف سيتحيز وهو لا يقلب فكرة في العطاء أو التضحية أو الاستشهاد إلاّ ليجد تحتها الزهو أو الأنانية أو التعطش للمجد والسلطة؟!، إنه مشبع بوعي كيتشي نافذ الثقل.

 لا شك أن إنساناً كهذا لديه ترسانة معرفية كبيرة تجعله متحرراً من كل الأوهام والأهواء والقيود؛ لكن تحرره هذا لم يحصل عليه إلا بعد أن هدم كل أصنامه وانهار كل شيء من حوله، إنه حر، لكنه في صحراء قاحلة ينازع الخواء والعراء وحيداً.

*اسطورة سيزيف