الأربعاء، 6 سبتمبر 2017

المخلص المنتظر






جاءت الجموع لتطلبه واحتشدت في أسفل الوادي: رقعٌ من الأنفاس المتلاحقة تطيّر ثوب الأرض الساكن، الأرض التي لم تعد تكترث بشقائهم، والتي لم تتحمل مشقة إطعامهم منذ زمن بعيد. بدت وجوههم من شدة نحولها أقنعة هشة مرقعة مزقها الجوع، ليكشف عما تحتها من وجه وحيد، وجهٌ يتقاسمون مرارته فيما بينهم، وكأنهم مرايا مجلوة -بأحجام مختلفة- يحدِّق فيها الجوع مستمرئاً ضحكته الدميمة.

 -مخلصنا، نحن جوعى. أبانا، أطفالك يهوون إلى جوف الأرض ويتساقطون إلى السفح بجنون، وليس لهم ما يتحصنون به سوى محرابك.

 منتصباً على القمة، خافضاً رأسه الحاسر، لم يُجبهم المخلص بشيء.

 -مخلصنا، فيما مضى كنّا نخشى الظلام، إذ كل حبل في الظلمة أفعى، والآن نتلهف مجيء الليلِ لنلاحق تلك الأفاعي التي نتوهمها، نتهافت عليها، نمسك بها، ونعتصرها في أفواهنا المتشققة، وحين تشرق الشمس الملعونة، نعرف أن تلك الأفاعي ليست فقط محض خيال، بل مشانق تنتظر صرختنا الأخيرة لتحكم قبضتها على أعناقنا.

  لم يُغيِّر المخلص من وقفته، ربما انحنى ظهره قليلاً، ربما لامس ذقنه صدره، ربما عبثت الريح بشعره الداكن، ولكن من المؤكد أنه لم ينطق بكلمة.

 -مخلصنا، كيف يمكنك أن تقسو هكذا؟! ألا ترانا؟! ألا تصغ إلى صوت الغربان التي تكاثفت سُحبها فوق رؤوسنا؟! ألا تستنشق رائحة الحريق الذي يلتهم أشجارنا الجرداء ولا يُبقي على شيء منها سوى الذئاب الكامنة خلفها؟! مخلصنا، فلتفعل شيئاً، لا تصلب ذراعيك هكذا، لا تخفض رأسك، ارفعه عالياً، دعنا نشاهدك تبذر كلماتك ثماراً ولحماً"،  لم يزل المخلص صامتاً. "باركنا، لقد خارت قوانا، وأرواحنا تكبلها أصفاد الوهن. باركنا، ولكن لتكن بركتك رغيفاً من الخبز. لا تتركنا هكذا، ارفع وجهك، على الأقل أرنا أنه ليس كوجوهنا، لا تدعنا نشك بأنك مثلنا جائع.

 فجأة تكلم المخلص، كانت كلماته -وهي تتشنج بين الشفتين- أشبه بصمت يتململ وقد عاوده كابوس ما، كانت نبرة صوته هزيلة، نبرة لا تصلح للإتيان بمعجزة، بل تليق بمتسول يستجدي ما يسد به رمقه.

 -لقد أخبرتكم من قبل.

 تدانت الجموع، حتى غدت درعاً متماسكاً، كأن الكلمات الهزيلة التي سمعوها كانت منجلاً عظيماً يستعد لحصد رؤسهم. التمعت أعينهم وكأنها تعكس بريق النصل المتأرجح فوقهم، تبادلوا النظرات، ثم رفعوا رؤسهم وصرخوا. 


-بم أخبرتنا؟! هل يُعقل هذا؟! هل يُعقل أننا قد تبعنا طوال الدهرِ بهلواناً، مهرجاً، لصاً استولى على أثمن ما نملك مقابل كلمات مهترئة أصابها العفن. لقد ظنناك قائداً -رُباناً- لسفينتنا، والآن، أيها السيد الربان، خدامك جوعى؛ وبدلاً من أن تمنحنا سمكة، منحتنا صمتاً. انتظرنا أن تعلمنا الصيد؛ وبدلاً من أن تهبنا شبكةً، وهبتنا مزيداً من الصمت. انتظرنا أن تجترح معجزة؛ وبدلاً من المعجزة، أخبرتنا بأن الجوع فضيلة يتوجب علينا نشده. وها قد أتخمنا الجوع، ماذا ننتظر بعد؟! ليس أمامك سوى أن تخبرنا بأن الموت هو الشبع الحقيقي. إذاً فلتكن أنت أول من يشبع.


 ينقض عليه الجمع، أمواج من الصخب المهتاج، تختمها صيحة إنتصار. لقد تدبروا أمراً ما ابتغوه: لقد نحروا مخلصهم المزعوم. ها هم وقد تحلقوا حول بركة الدماء، محملقين في الرأس المقطوع، بعدما خمدت جذوة سعارهم، لم يتفرقوا، كان هنالك، في أغوار قلوبهم اليابسة، أمل ما يخفق، كأنهم ينتظرون من الرأس أن تحلق عالياً، لتلعنهم، لتخبرهم بأنهم قد ارتكبوا –للتو- أشنع الكبائر، لكن تمر الساعات ولا يحدث شيء، ولن يحدث شيء!

السبت، 14 يونيو 2014

بؤس الفلسفة

من فرط استهلاكنا للغة اليومية شديدة العادية أصابنا الضجر وبدا كلامنا عن الأشياء يغدو مبتذلاً؛ من هذه النقطة وبدءاً من هنا بالضبط بدأنا نبحث عن لغة جديدة وجذابة تتحدث عن نفس الأشياء، لكنها تحمل كل سمات التعالي النخبوي والغموض الذي ينطوي على الخواء. أي نتيجة انتهى إليها لهاثنا ذلك؟ إلى شيء اسمه الفلسفة.


***

كل خط زمني يمشيه المرء منشغلاًً بالفلسفة هو خط مهترئ سيودي به حتماً إلى هاوية لا قبل له بها. الآن حينما أتأمل كل تلك الدقائق التي أفنيتها في الانكباب على النصوص الفلسفية، لا أشعر سوى بالحسرة والمرارة؛ لم يسبق لشيء في هذا الوجود أن خذلني مثلما فعلت الفلسفة. لقد أغوتني إلى وكرها ووعدتني بأشياء كثيرة وأنا الآخر توقعت منها أكثر مما تستطيع هي أن تمنحني إياه، ولكن، ويا لحظي العاثر، لم أخرج من تجربتي معها إلا بالخيبة، أحتاج الآن إلى كتيبة بشرية لتجر ذيول خيبتي.

ثمة قوة غامضة قذفت بي إلى هذا الوجود، وأول ما اتضح لي من هذا الأخير: أنه وجود ملغّز، صعب، ومبهم. في الواقع أنه من المحال على المرء أن يعيش ولو ليوم واحد بدون أن تجتاحه أسئلة حارقة حول معنى الذات والله والحياة. الطابع الحارق لهذه الأسئلة الثلاث هو الذي أغواني للارتماء في أحضان الفلسفة التي لم أعتنقها عن حب وشغف بل فراراً من أزمة الوجود وضيق المعنى. خيبة أملي في الفلسفة هي أشبه بما حدث لرجل تعرف إلى امرأة فاتنة ومثيرة، فتعلق بها وظل يحوم حولها ووضع كل وقته قرباناً لها، ولكن بمجرد ما أصبحت معرفته بها تتعمق شيئاًً فشيئاًً بدأ يكتشف بأن تلك المرأة، رغم جاذبيتها، امرأة تافهة ترتدي سترة مثيرة من الجلد واللحم، وبأن كل سعيه وراءها كان سعياً وراء اللاشيء.

 أقل ما يقال عن أي نص فلسفي نموذجي/أكاديمي هو أنه أشبه بصحراء جليدية عارية. الآن لا أستطيع قراءة أكثر من بضع صفحات من الوجود والزمان أو الوجود والعدم، دون أن أنسحق تحت عجلات الشعور بالوحدة والتيه. ببساطة لا يمكنك أن تستمر في قراءة أي نص من هذين دون أن تشعر بذلك الغياب الصاعق للإنسان: لا مشاعر، لا تقلبات مزاجية، لا تناقضات، ولا رغبات تصارع بعضها بعضاً. عندما تغرق مثلاً في قراءة نص لكانط أو مارتن هايدجر لا يمكنك إلا أن تقف لحظة وتتساءل عما إذا كان النص يتعلق بإنسان (بالمعنى الروحي للكلمة) أم بآلة مفكرة. النص الفلسفي نص جاف وقاحل، وقراءته أمَرُّ من عبور الصحراء على إنفراد؛ لاشيء فيه إلا ذلك اللي الخبيث للكلمات واللعب البهلواني بالمفاهيم. وأول ما يعد به النص الفلسفي هو البحث عن الحقيقة والقبض عليها- إن أمكن ذلك- ولكن هذا النص – ويا للسخرية- لا يفعل شيئاً سوى التخلي عن أي حقيقة والبدء في إنتاج حقيقته هو: نسيج معقد من المفاهيم والتصورات المغرقة في التجريد تتخلله كل تلك العمليات المنطقية المعهودة. وماذا يكون حالنا مع الوجود بعد الانتهاء من قراءة كل عمل فلسفي كبير؟ لا شيء سوى المزيد من العتمة والضبابية.

 النص الفلسفي في مظهره يبدو عميقاً، ولكنه في حقيقته سطحي، جوهره فارغ. لك فقط أن تقوم بترجمة نص فلسفي إلى اللغة العاميّة الدارجة وسترى كيف سينهار ويتحول إلى ركام بلا معنى. لنقم فقط بمقارنة بين بوذا وهايدجر؛ كلا الرجلين تحدثا عن الوجود والعدم؛ عن الحياة والموت. لكن الأمير الهندي كان أوضح وأبلغ، فقد تحدث عن أمهات المسائل بكلمات مقتضبة في منتهى البساطة، وهي بسيطة إلى الحد الذي جعلها في متناول الكل؛ حتى آخر بقال في الجوار لا يمكنه أن يفوت ذلك العمق الذي تنطوي عليه. الأستاذ الألماني هو الآخر تحدث عن نفس المسائل لكنه- وهذا هو وجه العقم فيه- استعمل لغة أكاديمية، وهذا ما جعل نصوصه نخبوية وبعيدة المنال إلا عن الدوائر الأكاديمية المغلقة. يبدو أن كل ما يهتم به هايدجر فعلاً ليس الوجود في حد ذاته بل الطريقة التي يتحدث بها عن الوجود، وهذا ما يجعل النص الهايدجري- وهو النص الفلسفي بامتياز- نصاً تقنياً حيث تحل المفاهيم الإجرائية والمقولات المنطقية محل الكائن، وتتحول علاقاتنا بالوجود من معضلات وجودية إلى تمارين معرفية. يتأملون الفلاسفة كل كوارثنا الوجودية الكبرى- من كارثة الولادة إلى كارثة الموت وما يقع بينهما- ولكنهم يتناولونها كمتخصصين أكاديميين؛ فماذا تكون نتيجة هذا التناول؟ أنساق تجريدية معقدة وتراكيب مقولاتية لا توازيها في تدويخ الأذهان وإرباك العقول حتى متاهات ديدالوس. أي تقييم يمكن أن تمنحه لنص فلسفي كالوجود والعدم؟ لا شيء سوى أنه هذيان ما بعده هذيان. والحق أن النص الفلسفي طبق جذاب لكنه بدون ملح. وجاذبيته هذه لا تمارس سحرها إلا على التلامييذ الأكاديميين الذين يطريهم التغلغل في كل ما هو مجهول وغامض، ويسعدهم الانغماس في أسماء الأشياء عوضاً عن الأشياء نفسها.

 فيماذا يهمني كون الوجود الإنساني خاضع لإرادة المعرفة أو إرادة القوة؛ أو أنه وجود يسبق ماهيته؟! بما يهم إذا كان هذا الوجود هو الوجود الوحيد والممكن؛ أو أن يكون مجرد صورة شاحبة لوجود اخر ميتافيزيقي ومتعال؟! في رأيي أكبر خطأ وقع فيه الفلاسفة هو المبالغة المسرفة في وصف الوجود، كما لو أن مشكلتنا مع الوجود مشكلة معرفة. في الواقع، السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه علينا بإلحاح كصداع نصفي ليس "ما هو الوجود؟" بل هو "كيف نتحمل الوجود؟". نحن من ربحنا يناصيب الحياة، لكن مشكلتنا مع صدفة الوجود ليست مشكلة فهم بقدر ما هي مشكلة صمود. كل ما أعرفه الآن- وقد التهمت المئات من النصوص الفلسفية- لا يختلف عما اختبرته وأنا ابن الحادية عشر؛ لقد فهمت مبكراً بأن هذا الوجود وجود أصم، وأخرس لا يكترث بنا، ولن يبالي بنا حتى لو مزّق صراخنا عنان السماء؛ وفهمت أيضاً بأن كل حياة هي مسلسل من الانهيارات المتتالية، سقوط تلو الاخر؛ ولكن ما كان يعوزني دائماً ليس النظريات والمفاهيم والترسانة المعرفية، بل ذلك التوازن النفسي والروحي اللازم لمواجهة تلك الانهيارات: توازن يحول بيني وبين السقوط للسفح بجنون.

يتبع...

*عنوان التدوينة مقتبس من "كارل ماركس".

الخميس، 13 مارس 2014

أنبياء مقموعين

الله حظ النبي. 
~محمود درويش


لا ينعم مجتمع بشري بالسكينة والاستقرار إلا بقدر افتقاره إلى الأنبياء؛ في كل مرة تتصفح فيها جريدة ما أو تستلقي أمام الشاشة، إلا ويطل عليك وجه أحد من بني آدم كله رغبة وحماس في أن يعطيك دروساًً فيما يجب وما لا يجب. إنه مهووس بفكرة ما، وهذا كاف لكي ينغّص على الآخرين حياتهم. من خلال علاقاتي بالبشر، لم يسبق لي، إلا قليلاً، أن التقيت إنساناًً بدون ميول نبوية. كل فرد، بقالاًً كان أم فيلسوفاً، يزعم بأنه يمتلك تصورات واضحة جداً عما يمكن أن يعنيه الخير أو الشر؛ وما إن تجلس إلى أحدهم حتى يمرر لك انطباعاً بأنه نبي مقموع، وبأن الآخرين مصابون بلعنة الحرمان من وصفاته السحرية بالغة العبقرية حول السعادة الدنيوية أو الخلاص الأخروي. إنه يعتقد بأنه لمجرد كونه ثرثاراً يجب على الآخرين أن يزحفوا خلفه زحفاً.

 منذ موسى ونحن نرزح تحت عبء النبوة. بدأت الحكاية بعشر وصايا بسيطة لتتحول على مدى قرون من الزمن إلى أنساق ميتافيزيقية جبارة لا يوازيها في كثرتها الفاحشة إلا حالات فشلها الذريع في إيجاد حل لمشاكل الوضع الإنساني. من أين يأتي داء النبوة هذا؟! إنه يأتي من داء عميق: داء القيادة -الكل يريد أن يكون وصيّاً على الكل. ويأتي أيضاً من التقدير المفرط للذات: كل واحد منا يعتقد بأن وجوده في هذا العالم ترتيب إلهي أو ضرورة تاريخية، وبأنه ما جيء به إلى هذه الدنيا إلا رحمة بالعالمين. الإنسان لا يتحمل حياته الخاصة، لذلك يتملص منها بالتدخل في شؤون الآخرين. وبهذا نجعل من كل تجمع بشري جحيماً لا يطاق: الكل ينتظر دوره كي يقترح شيئاً ما أو يُصنّف شخصاً. إن المرء يدفع الثمن غالياً عندما يرفض العيش في الصحراء.

 من أين يأتي هذا الاكتساح من لدن الأنبياء لمجتمعاتنا؟ إنه يأتي من رفضنا لمحدودية الحياة -أي كونها لا تستطيع أن تعطي أكثر مما تملك- وربما يأتي أيضاً من رغبتنا الشديدة في بناء الفردوس هنا والآن، أو من العطش الشديد للمجد واحتلال مركز الأشياء. الإنسان الذي يبصر نفسه جيداً، لا يتجاوز أبداً الحدود المُشَكِّلة لحياته الخاصة، لِمَ عليه أن يهتم لوضع الآخرين وهو لديه ما يكفي ويزيد من العدم والعبث، ولديه موعد يومي مع صراع نفسي عنيف بين ما هو عليه (حدود إمكانياته الحقيقية) وبين ما يتمناه وما يفرضه عليه الواقع (المسموح)، مما يدفعه لوضع الكثير من الخطط والميكانيزمات، وذلك ليحافظ على توازنه النفسي وعدم الإنهيار إلى السفح بجنون. إن النبل بمعناه الأعمق لا يوجد إلا عندما يتموضع المرء على هامش الوجود. والحق أنه لو كانت للإنسان صورة واضحة عن لا جدوى وجوده، وعرف بأن العالم يسير دائماً نحو الأفضل عندما يحجم هو عن الانخراط فيه، لربما تحققت الفردوس على هذه الأرض.

 في مقابل كل نبي تقريباً يوجد نبي مضاد. لكل منهم فروضه التي هي على النقيض التام من طروحات الآخر؛ هذا يبشر بالحداثة وذاك بالخلاص وآخر بنهاية التاريخ، واللائحة تكاد لا تنتهي. كيف لأي شخص يتمتع بالتبصر ورجاحة العقل أن يعثر على ضالته في هذا الزخم المبالغ فيه من "الحقائق" التي يبشر بها الأنبياء؟! بمجرد ما تتبع واحداً منهم، تثبت على نحو لاشك فيه، انك لم تستوعب حقيقة ما يجري حولك. لا ينبثق نبي من هذا الوجود إلا وتزداد الأمور سوءاً، ولا يغادره إلا بعد أن يثقل كاهله بالمزيد من الرموز والتعاليم، ويحقنه بجرعة أخرى من البؤس والمعاناة. ميراث الأنبياء؟! حروب وأنهار من الدماء، وطوائف متناحرة، ومحاكم تفتيش، وأشباه قضايا، وأحقاد، وضغائن مضمرة، إنهم باختصار يتركون خلفهم- ويا لسخرية الأقدار- كل أسباب الجحيم.

 نحن لا ننفك أبداً نسير وراء هذا النبي أو ذاك؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنه قد مات فينا أشد ما يميزنا: الارتياب والقدرة على التهكم. وذلك أنه لولا عمى القطيع وتعلقه المرضي بأكذوبة الخلاص لما قامت لنبي قائمة. مراجعة خفيفة للتاريخ البشري، بما فيه من السخافات السوداء والهزليات الدامية، تبين للمرء بأن كل رغبة في لعب دور المنقذ والمُخلّص هي رغبة شاذة وتصرف غير ناضج للعقل.

***

 لا شيء يفضح عقم أفكارنا وضحالة تصوراتنا ولا جدوى سياساتنا في تدبير كياننا أكثر من البرامج الحوارية التي تعرض على شاشتنا. في الثلاث سنوات الأخيرة شاهدت من حين لآخر بعض البرامج الحوارية؛ مع الانتهاء من مشاهدة كل حلقة، لا أخرج بأي فكرة أو تصور خلّاق أو إشارة ذكية؛ كل ما يتبقى لي هو اضطراب في الرؤية أو تشوش في الذهن، ناهيك عما يرافق ذلك من استجلاب للكآبة وخيبة الأمل. البرنامج الحواري ملتقى لأربعة نماذج من المثقفين العرب: هناك القومي والإسلامي والحداثي وهناك المثقف المحسوب على دوائر السلطة وصنع القرار. رغم كل الجدل العقيم والنقاشات الحامية التي يثيرها هؤلاء المثقفون، ورغم كل الغيرة التي يبدونها إزاء الله أو الوطن أو الملك، فإن الخطابات الأيديولوجية لهؤلاء المثقفين تتكدس بالأوهام والمغالطات والمفارقات والتناقضات٬ ولا يوازيها في هذا الحجم من الخلط والعبث إلا تخبطات هؤلاء المثقفين أنفسهم.

الهوية

الهوية باختصار شديد مفهوم ميتافيزيقي يقوم على الاعتقاد بأن هناك ذاتاً قائمة مستقلة بنفسها، حاملة لمجموعة من الخصائص التي لا تتغير بتغير المكان أو الزمان. وبالتالي فإن كل ما يختلف عن هذه الخصائص أو يناقضها فهو غريب، دخيل، شائب، وغير أصيل وربما خائن. ولا غرابة في أن نجد هذا المفهوم مبسوطاً على كل صفحة من صفحات الخطابات الأصولية بنوعيها الديني والقومي. لا تكون النرجسية الدينية والعنصرية العرقية ممكنة إلا بالتغني بكيان هلامي مفترض، نسينا من كثرة ترداده على الألسنة وحفظه في الأذهان بأنه مجرد كيان افتراضي، نسميه مرة بالهوية الدينية ومرة أخرى بالهوية العربية ومرة بالهوية المصرية وهكذا دواليك... كلما ضاقت الدائرة وزاد التمركز على الذات بزغت هوية جديدة. هذا المفهوم يفرض عليّ أن ألتزم بمنظومة من الرؤى والمعتقدات والأخلاق/السلوكيات فقط لأنني ولدت ضمن الحدود الثقافية والسياسية لهذه المنظومة أو تلك. بالنسبة إلي لن أقف تحت أية لافتة ثقافية أو قومية ولن أندرج تحت أي عنوان مهما كان، وكل هذا للأسباب التالية: أولاً، لأنني شخص "فرد"؛ مما يعني بأن وجودي لا يمكن أبداً أن يختزل في رقم أو اسم أو أي شيء يقبل التنميط أو الترتيب أو التسمية. ثانياً، يريدني مفهوم الهوية أن أكون رهناً لشيء لم أختره فيما أنا أكره الارتهان والقولبة والخضوع والتشيُّؤ، إنني لا أتحرك على أرض الوجود إلا وفق استراتيجيات الاختيار والانتقاء والتذوق، وبالطريقة نفسها التي أختار بها طعامي أختار بها أيضاً أفكاري وتصوراتي. كل ما يسبب لي عسراً في الهضم أو يستثير في رغبة في الكسل والتراخي أبعده عن مائدتي.

 المثقف الديني هو الأطروحة المضادة لكل ما سلف ذكره. إنه يريدني أن أخضع نفسي لدين صحيح، مبين، صاف، حقيقي، لا وجود له إلا في مخيلته هو. وأنا أرفض هذا الطرح لسببين: أولاً، الدين ليس علماً دقيقاً (science exact) يمكن أن نتعامل معه بمعايير الصحة والخطأ أو القابلية للتحقق وعدم القابلية للتحقق (verifiability principle)، فمعظم القضايا المطروحة على الساحة الدينية هي إما أشباه قضايا (كصراعات السنة والشيعة مثلاً) أو اصطدامات مع حركة التاريخ تتجلى في توجهات صوفية خيالية وأخرى رجعية حالكة الظلام. ثانياً، إذا كان هناك شيء يمكن تسميته بـ"الإسلام الصحيح" على سبيل المثال ويمكن أن نكتبه بالحرف الكبير، فأي نموذج نختار من بين القوالب المعروضة أمامنا؟! هل نختار إسلام طالبان أم إسلام الإخوان المسلمين أم إسلام آبائنا وأجدادنا أم إسلام المعتنقين الجدد من أوربيين وأمريكيين وغيرهم؟ ما أفهمه من مصطلح "الدين" هو نسيج من القناعات شديدة الخصوصية والمسلَّمات وطرائق في الفعل والنظر تلونت بألوان الزمان والمكان وتشكلت باختلاف الذوات والإرادات. والنتيجة المباشرة المنطقية لتلك المقدمات هو أنه لا وجود لأي نموذج حضاري-تاريخي، مثالي، يتعالى على النقد والمساءلة.

 إرادة العقيدة أم إرادة المعرفة؟

لا يريدنا المثقف الديني أن نتعب، كل مشاكلنا ومآزقنا وسقطاتنا يجد لها هو الحل في الشعار التالي: "الدين/الشريعة هي الحل". هذا الشعار البرّاق، بالإضافة إلى قاعدة شعبية تتشكل من جيوش جرارة من المتعصبين والبائسين والبسطاء، مما يدفع المثقف الديني إلى تصدر واجهة الحدث والخبر مما يوهم العامة من الناس بأنه سبيل خلاصهم (المخلِّص) أو المهدي المنتظر. لكن تاريخ الفكر علَّمنا بأن الأفكار الكبرى لا تقاس بمدى تسويقها شعبياً ولدى الجماهير أو بمدى سيطرتها على المشهد الإعلامي، بل تقاس بمدى تطابقها مع القوانين الكونية وسنن الحياة. وإلا أصبحت رجعية بالمعنى المعرفي للكلمة. إنه يريد منا أن نضرب بعرض الحائط كل التراكمات الحضارية التي تحققت في أساليب الفكر والكشف والنظر والمعالجة، وأن نعود في شكل حركة تاريخية عكسية إلى أساليب القرن السابع الميلادي. وفي الواقع أنه لا وجود لحوار فكري-نقدي ممكن معه؛ لأنه شخص تسيطر عليه إرادة العقيدة أكثر من إرادة الحق والمعرفة، ولاعتقاده بأن كل الأجوبة عن الأسئلة الوجودية لا توجد إلا بين دفتي كتاب مقدس أو في تفاصيل سيرة ذاتية كريمة، فإنه لا حاجة له في أن يتكبد مشاق النظر وجهود الفكر.

 نظرية المؤامرة

 يرد أغلب المثقفين العرب كل شرور العالم إما إلى الشيطان فهو المشجب الأقرب ليعلقوا أي شيء يفشلون في احتوائه ومواجهته وإما إلى اليهود فالعداء معهم مقدس، بل في أغلب الأحيان لا ترد إلا لهؤلاء. كل زلزال اجتماعي عنيف هو من صنع اليهود وكيدهم، سواء تعلق الأمر بإصلاح المناهج التعليمية، أو مدونة الأحوال الشخصية أو بحقوق الأقلية، حتى ميل الشباب إلى موسيقى مثل الروك أو الميتال هو صناعة يهودية بامتياز!! والحق أن مفهوم "اليهود" في الخيال العربي بشكل عام هو من الاتساع والمرونة بحيث يمكن أن يحوي كل ما هو غريب، نجس، شيطاني، مارق، ومرتد. ولذا فهو يتسع اتساع الكون للخونة والكفار والمسيحيين والعملاء والمخالفين في الرأي والعقيدة، والفلاسفة بكل ألوانهم واتجاهاتهم، بل إنه يتسع حتى لبعض المسلمين أنفسهم! والحق أن سيطرة نظرية المؤامرة على الخيال العربي -الديني على وجه الخصوص ليست جديدة، فهي تعود إلى أيام عبد الله بن سبأ وما فعلته هذه الشخصية الأسطورية بدين المسلمين، مروراً بأقطاب الأصوليين القدامى كالغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وحربهم على العلوم الدخيلة، تم انتهاء بالأصوليين الجدد الذين يكادون يمزقون حناجرهم بمحاضراتهم حول الغزو الفكري وصدام الحضارات. والحق أن الأفكار الخلاقة التي توافق قوانين النفس وتتلاءم و نواميس الكون لا تغزو بلداً ولا تحرق شجراً ولا تفسد بشراً، وما نسمع به من "غزو فكري" و "صدام حضارات" إنما هو في حقيقته غزو أصوليات و صدام جهالات. من وجهة نظر نفسية، لا تسيطر نظرية المؤامرة إلا على العقول الضعيفة والنفوس العاجزة. عجزها عن مواجهة التحديات وارتباكها أمام القضايا والإشكاليات يدفع هذه النفوس الضعيفة إلى تعليق عيوب الذات على مشجب الغير.

 النقد الفعال أم النقض الهدام؟

 لا همَّ للمثقف المصري خاصةً الذي يحضر حلقة من حلقات الحوار إلا إظهار محاوره بمظهر الجاهل والسطحي. مهما أطال المحاور في القول واستفاض في الشرح فإن الآخر لا يتكلف حتى عناء الإنصات والمشاركة، بل إن كل ما يُحسن فعله هو تقييم طروحات غيره في أحكام قيمية لا تقوِّي فهماً ولا تزيد علماً. يكفي فقط أن تتفحص ملامح أحد المتناظرين أو تنظر إلى الهيئة التي يتموضع بها على الكرسي لكي تستنتج بأن الرجل لا يهمه رفع التباس عن قضية ولا إلقاء مزيد من الضوء على إشكالية. والحق أن النقد بالمعنى الكانطي للكلمة مُعْدَمُ الممارسة في حلقات تلكم البرامج. وللذين لا يعرفون معنى النقد الكانطي نقول بأنه نقد لا يرمي إلى هدم أو دحض أو كشف عورة، بل هو تقليب القضية من كل وجوهها لتحديد إمكاناتها وحدودها، أي نقاط قوتها ومكامن ضعفها. والنقد بهذا المعنى هو شريان الحياة بالنسبة للأفكار الكبرى من ديموقراطية وعلمانية وعلوم طبيعية وأخرى إنسانية. والنقد بالمعنى العلمي هو فحص النظريات واختبار الفرضيات، وبالمعنى الفلسفي هو تفكيك المقالات وإلقاء الضوء على تناقضات الأيديولوجيات والشعارات، أما على الصعيد الوجودي فالنقد كما أفهمه وأؤوله هو اجتراح تقنيات مبتكرة في التفكير والتعبير، وفتح أراض واسعة للنظر والمساءلة، ناهيك عن خلق قنوات جديدة للتحاور مع الوجود والحقيقة أو مع الذات والعالم.

 نرجسية المثقف

للمثقف شخصيتان، شخصية دعائية مدعية للتسويق واصطياد الأشياع والأتباع، وتتشكل هذه الشخصية من التوجه الأيديولوجي و" التحصيل العلمي" و" الرصيد الفكري"؛ وهذا كله يمثل، للأسف، كل ما هو سطحي ومضاف إلى شخصيته الحقيقية. وهناك الشخصية الأساسية التي تمثل أسوء ما فيه؛ أي أنها تتشكل من مجموع الترسبات والتراكمات التاريخية التي تميز الثقافة الشرقية باستبدادها و تعصبها. و الحق أن خطاب المثقف العربي يقدم هذا المثقف و كأنه مدافع عن الملة أو منافح عن العقيدة أو حارس للحقوق والقيم، ولكن هذا كله ليس إلا ظاهر خطابه، فيما عمقه ينطوي على أشياء مضادة مطلقاً لكل ما يدعو إليه. فالمثقف الإسلامي، مثلا، يرفع شعار "لا حكم إلا لله"؛ وبهذا الشعار يمارس المثقف الإسلامي من المكر و التلبيس ما لا يتفطن إليه الكثير من الناس. وجه المكر والتلبيس هنا يكمن أولاً في أن هذا المثقف يحجب "طبيعة السلطة وإنسانيتها"، ويكمن ثانياً في أنه فيما يدعوك إلى التوبة أو التسليم أو الرجوع إلى الحق والأصول، فإنه في الحقيقة لا يمارس عليك إلا سلطته هو؛ أي أنه لا يفرض عليك إلا تصوره وفهمه وإرادته. وهذا هو شأن الدعاة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فما يظهره الداعية هو الدفاع عن الحق والخلق أو حراسة الذاكرة والهوية لكن ما يخفيه هو أنه يدافع عن تأويله هو للكائن والكينونة أو فرض ذاته وكيانه على الآخرين، ناهيك عما يترتب عن ذلك من تصرفه إزاء غيره كنبي أو مهدي أو مخلًِص.

 جموح الإسلاميين وارتباك الحداثيين

 رغم كل التعصب والانغلاق والتمركز والتعالي والنرجسية والاصطفاء الذي يظهره الإسلاميون إزاء المختلف عنهم في الرأي والعقيدة فإن لهم بعض المحاسن التي يحمدون عليها، ومن بين هذه المحاسن الوضوح والجسارة. يكمن وضوحهم في أنهم لا يريدون منهجا حضارياً بديلاً عن الإسلام. الإسلام ولا شيء غير الإسلام. إنهم واضحون إزاء كل شيء من الديموقراطية إلى الموسيقى. بأي منبر من منابرهم تحل لن تسمع إلا المواقف نفسها: الديمقراطية كفر وإلحاد، العلمانية دعوة للفسق والمجون، الفلسفة تغريب وزندقة، أما الرسم والموسيقى فهما بدعتان من بدع عزازيل. هذا هو وضوحهم، أما جسارتهم فتكمن في ضربهم بعرض الحائط كل المواثيق الدولية والمعاهدات الكونية. كل النماذج الحضارية، أكانت نماذج يابانية أم كندية أم سويدية لا تساوي عند أصوليينا الجدد جناح بعوضة. أما أمر الحداثيين فإنه يدعو إلى الشفقة. مقولات الحداثة وتصوراتها حول الحرية والفردانية تستهويهم أيما استهواء لكن المساكين لا يملكون ما يكفي من الجرأة و الجسارة للقيام بقطيعة معرفية مع تراثنا القروسطي بقيمه البدوية الخانقة وأعمدته الإجتماعية والثقافية المتهالكة. خوفهم من أن يُتهموا بالإلحاد والتغريب والارتداد يدفعهم إلى خلق خطاب ملفق هجين لا هو بإسلامي صريح ولا هو بحداثي خلاق مجرد خطاب هلامي. حداثيونا يريدون أن يقوموا بعملية جراحية حضارية شبه مستحيلة؛ إنهم يريدون أن يؤسسوا نظاماً ديمقراطياً لكن بدون أن يمسوا شيئاً من سلطات الملك! مجاملات الحداثيين ودغدغتهم لمشاعر الإسلاميين تجر هؤلاء الحداثيين إلى خوض معركة التحديث والإصلاح بموازين ليست في صالحهم؛ ذلك أنه عندما يعلن الحداثيون بأن الحداثة بفلسفتها التحررية وديمقراطيتها وعلمانيتها لا تتعارض وجوهر الإسلام، فإن هذا الموقف بالذات هو ما يصيبهم في مقتل. يرد الإسلاميون، وهم محقون في ذلك، على الحداثيين قائلين لهم " بما أن الحداثة، كما تزعمون، لا تتعارض في شيء مع ديننا الحنيف، فلماذا إذن نترك ما هو متجذر متأصل في ثقافتنا ونستنبت فيها ما هو غريب و دخيل عليها ؟ !".

 بوق النظام

 لا جديد عند مثقفي السلطة في وطننا العربي، إنهم لا يجيدون إلا المدح ومسح الأحذية. لا يفتح مثقف السلطة عندنا، فمه إلا في ثلاث حالات: إما ليتغنى بمنجزات هذا الملك أو ذاك الزعيم وإما ليُشيطن معارضي النظام المحسوب عليه أو عند طبيب الأسنان. كل ما يوجد في أوطاننا من بؤس، واحتياج، وأمية، ولا مساواة، وتخلف، وقلاقل هو في نظر مثقفي السدة العالية إما من فعل "الخونة" أو "المرتزقة" أو "العملاء" أو "الحاقدين". وعندما تطلب منهم تفسيراً لتلك الفضائح التي يخرج علينا بها أسيادهم بين الفينة والأخرى، والتي تأخذ مرة صورة توريث للحكم أو نهب للمال العام ومرة أخرى صورة تعديل لا دستوري للدستور أو تضييق على الأشخاص أو الأفكار أو الحريات، يجيبونك بمنطقهم السفسطائي المتهافت الذي لا يكاد ولو لمرة واحدة، يخلو من المقدمات المتهافتة والتبريرات الواهية والكذب السافر. و لا عجب في الأمر، فلا شيء أكثر وضوحاً وأهمية بالنسبة لمثقف السلطة أكثر من علاقة المصلحة التي تربطه بالنظام السياسي المحسوب عليه، كلما كان النظام أكثر سخاء زادت استماتة هذا المثقف في الدفاع عن هذا النظام. و الحق أن مثقف السلطة في وطننا العربي، وبالرغم من كل مآخذنا على ما يظهر منه من نفاق وازدواجية وتملق، قد أثبت بأنه جدير ليس بالدفاع عن هذا الزعيم أو ذاك السلطان فقط بل يمكنه أن يدافع حتى عن الشيطان ! و مهارات مثقفي السلطة لا تخفى على أحد، فعندما يبدؤون في التحدث عن المنجزات التي حققتها أنظمتهم، على قلتها ومحدوديتها، تجدهم ينفخون في النسب والأرقام والمعدلات إلى الحد الذي يجعلك تتساءل مع نفسك ما إذا كنت تعيش في السويد أم في بلد من بلدان العالم الثالث! وأما عندما يتطرقون للتحديات والمسؤوليات الجسام التي يجب أن تنهض بها أنظمتهم، فإنهم لا يفعلون أكثر مما كان يفعله بروكوست: تقزيم الأحداث وبتر الوقائع وتشويه الحقيقة والتاريخ. والحق أن تناقضات مثقفينا العرب بكل أطيافهم تضع المرء في حيرة من أمره، فهو عندما ينظر في تخبطاتهم في القول والفعل، ناهيك عن ألسنتهم البديئة ومنطقهم الأعوج، لابد أن يتوقف لبعض الوقت حتى يلتقط أنفاسه و يفهم ما يجري بالضبط على بلاتوه البرامج الحوارية: هل الأمر يتعلق بنفاق سياسي، أم بانفصام في الشخصية، أم بنقص في الذاكرة، أم بضعف في البصر والبصيرة؟ أم ماذا؟!

 التلفزيون في تصورنا المشترك أداة للترفيه والتسلية، و لكن يمكننا أيضا أن نجعل منه أداة للتثقيف والتنوير. وهذا ما لا تفعله الأغلبية الساحقة من قنوات تلفزيوننا العربي، بل الأنكى من ذلك أنها لا تفعل إلا العكس: تسطيح فكر الإنسان العربي و تبليد حسه بإغراقه في بحر من البرامج التي لا تُعنى إلا بالفنون الواطية والصناعات الهابطة. قنوات هز البطون وقنوات الدعاة والداعيات لا تختلف إلا في المظهر واللغة، أما من حيث التصور الكوني والأيديولوجي فهما توأمان سياميان؛ كلها قنوات تريد تقزيم كيان الإنسان في كائن تافه، بهيمي، مكبوت، عصابي، لا يسكنه إلا نزق الشهوة أو الإحساس بالذنب والخطيئة.

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2013

أليس من ذلك بد ؟!


Not to be produced by Rene Magritte

 تلك الرواية سامة، ربما أغرب رواية في العالم، بما تمتلكه من قدرة على العبث بعقلِ قارئها، وفي الضرر المستديم الذي تخلفه في الشخصية والضمير. رواية "كائن لا تحتمل خفته" لميلان كونديرا تنخر بطريقة جهنمية في الدماغ. يتراكم أثرها الخبيث ببطء سماً زعافاً، لا في مشهد سادي "كيتشي"، كأفلام الرعب الهابطة لشرذمة من المراهقين يذبحون بعضهم بعضاً، أو عنف مباشر بالإمكان تجاوزه بإشاحة النظر أو غلق الصفحة، بل في تدمير مسلمات الوعي الأصلية التي يرتكز عليها كيان القاري؛ الإنساني والأخلاقي أيضاً، هذه الرواية كانت السبب المباشر في انتحار "أروى صالح" صاحبة العمل اليتيم "المبتسرون"، بعد أن تشربت بوعي الكيتش فعجزت عن التعامل مع الحياة، ألقت نفسها من الطابق العاشر. لم يحتمل صدقها الكامل وانسجامها مع مبادئها اكتشاف أن كل ذلك الزخم كان مجرد كيتش لا أكثر، نفاية، وهم مبتذل زائف، فن رخيص، ولما انقشع الوهم فقدت الحياة التي ارتكزت كلية على الوهم معناها وتفككت، فوضعت حدا لحياتها بعد أشهر قليلة من صدور الرواية.

 الكيتش دائرة يملأها الشر والجنون وعدم التسامح، وفقدان التسامح هو وكر الغواية لارتكاب العنف بكل اشكاله الفيزيقية وما وراءها، لا تعود مستعداً لقبول أي تناقض مع الكيتش، إذ لا يعود البشر بالنسبة لك عوالم حية مجبولة على التناقض، بل أشياء تضعها على طاولة "بروكست" التي يحددها الكيتش، تقطع رأس هذا، وتمط رجل ذاك، كي يتلاءما مع طول الطاولة، مع قالب الكيتش، فتصبح أكثر ثقلاً من غطاء رخامي لمقبرة جدرانها اليقين.

 أفسدت الرواية قدرتي على الحكم السليم على هذا العالم، أربكت ما كونته طوال حياتي من إدراك، ابتلعت القوة والاطمئنان بداخلي المرتكزين على حفنة من الأحكام الضميرية المعينة، على وجه التحديد طرحها القاسي للكيتش، وما يتبع انقشاع الوهم من خواء يعقب التخريب الكامل في العقل والشخصية، الكيتش: اللفظ الكابوسي. صدَّرت لي الرواية كامل العجز عن التذوق الإبداعي بفعل ارتباك قدرتي على الحكم لما سببته لي من خلل مدمر جعلني لفترة طويلة من الزمن أقيم كل شيء بتساؤل جوهره "أهو كيتشي أم غير كيتشي؟!"، توهمت أن كل شيء في العالم قد أصبح قالباً كيتشياً وأن كل ما قد يقال قد قيل من قبل فأرى البشر في انفعالاتهم المتشابهة نحو ذات الموضوعات يرجعون إلى أصلهم قطيعاً من الحيوانات القابلة للإيحاء. عجزت عن مشاهدة الأفلام والاستماع إلى الموسيقى بذات الحماس القديم، ثم لم يمض وقت طويل حتى انسحب ذلك العجز على فهم النكتة! عجزت عن التقاط خيط السخرية والكوميديا في الحياة والدراما، موسوم بوسم الجدية والجهامة، حيث الحياة قاسية، لا وقت للضحك. لم أعد أضحك، والعجز عن الضحك صنع مشكلة عنيفة، غير المشكلة الروحية، مشكلة فيزيائية بالتحديد: التغير الحاد في بنية عضلات الوجه بفعل التجهُم والتقطيبة المستمرة اللاشعورية، الأغرب أنَ العجز عن تذوق الجمال والتمتع بالفنون انسحب نهائيا على القراءة حصني وملاذي الأخير فتوقفت نهائيا عنها، لم تعد القراءة متعة، صارت عبئاً ثقيلاً مخيفاً، لم أعد أهتم بالكتب الجديدة ولم تعد الإصدارات الهامة من الأعمال العالمية تعنيني، أما الجرح الذي تركته بداخلي تلك الرواية فنزف في تحول وجودي كامل، تجلّى في القدرة بشكل غامض على العدوان الفيزيائي وارتكاب العنف، اللفظي والمادي، ودون أدنى ندم. كنت قبل أن أقرأ هذه الرواية بالفعل شخصاً يبدو مسالماً، لكن مع ضربة الوعي بمعرفة الكيتش والغوص فيه عبر التأمل المنفرد تكشف لي كيتشي الخاص، السافل الجميل المعذب المخرب، كيتش الحب ومعه كيتش التسامح والسلام، بدأ كيتشي الخاص يتشقق وينهار ومعه بدأت ركائز عالمي تنهدم سريعاً، ولم يكن الهدم سهلاً، الأمر يشبه فقدان الإيمان أو تقشير الجلد وترك الأعصاب مكشوفة كأسلاك كهربية عارية مغروسة في اللحم مباشرة، غير أن الكيتش حين سقط لم يخلف وراءه ذلك الفراغ المطلق المريح، أو ذلك الموات المسالم، بل أسرعت الكراهية من فورها لتحتل الفراغ الذي خلفه وراءه انهيار كيتش الحب، صنعت الكراهية عداوة بين شخصي والجميع، والكراهية تأكل صاحبها في النهاية حتى لا يتبقى منه شيء، أصبحتُ عصبياً وعدوانياً وضيق الصدر وسليط اللسان، وتفننت في خسارة الجميع، أصبحت أفعل ذلك بلا وعي تقريباً، بنوع من نزعة جبر التكرار-حيث يقوم المرء بفعل معين يعرف بعقله أنه يؤذيه ولا يستطيع أن يتوقف، كما في حالة من يجرحون أنفسهم.

 تبدّى لي بعدها بأشهر قليلة الكيتش المفزع الأكثر فداحة في تاريخي الشخصي وتاريخ البشرية: كيتش التمرّد والثورة. الكيتش الذي اعتمدته لسنوات في حياتي منذ سن الثانية عشرة حتى الربع قرن، لحظة؛ بل لحظات كثيرة من الخفة التي تكاد لا تحتمل، ليس أولها التشرد في الطرقات وليس آخرها الثورة على السلطة: سلطة الأب والمعلم والأكاديميا والقانون والمجتمع والدين، الثورة الشخصية التي انتهت بالفشل الذريع، بالضبط كالثورة الكبرى، و لذات السبب وتحت وطأة ذات آليات الفشل، حيث تتحرك الشعوب، الجماهير الغفيرة، بحماس في مواكب هائلة حارة، يقودها الشباب دائماً، تهفو إلى الخلاص من الظلم والقهر والعبودية، سعياً نحو عالم أنظف وأعدل، دون أن تدرك في وهج لحظة خفة الانفعال الثوري التي لا تحتمل أن الثورة تنتهي في كل مرة إلى ذلك التحالف الثقيل الخالد بين الديكتاتورية والبيروقراطية، الثورة: الخفة المُحلّقة التي تكاد ألا تحتمل، ثم البيروقراطية: الثقل النافذ المُميت، الذي ليس منه بُدّ، دولة القانون المزعومة التي تمنعنا من نيل حريتنا، حيث تصبح الدولة بكامل جهازها البيروقراطي مُعادية للفرد، لحريته وكرامته وإنسانيته، كانت البيروقراطية الفرنسية الأقوى نفوذاً بصفتها الأذرع الأخطبوطية للدولة، هي التي أخمدت حركة الطلبة في فرنسا ١٩٦٨ بالتحالف بين قادة النقابات البيروقراطيين والبورجوازيين لإنهاء الحركة الثورية بإلقاء بعض الفتات القليل للطلبة والبروليتاريا، وانتهت الثورة بشكلٍ غامض بعودة العمال المضربين إلى المصانع بالتدريج، ودون سبب واضح، فغضبت الكتلة الثورية ونددت بما حدث مرددة مقولة ليون تروتسكي: أشنقوا آخر بيروقراطي بأمعاء آخر برجوازي.

 بعد فترة، اعتزلت المشهد المتثاقف رسمياً وأصبحت "الناسك"، كانت المأساة من العنف بحيث بدأت تنمو وتتضخم لكن لم يكن مسموحاً لها أن تخرج فجعلتْ تنبعج إلى الداخل لتجرح وتشوه. غمرني شعور بالتخمة جعلني أتوقف عن المضغ والابتلاع، فلماذا آكل والأفكار تخرجُ من الأحشاء، بدأتْ التفاعلات الحارقة لكل هذا الدمار الشامل تطفو قليلاً في صورة نصوص مختلفة المذاق، مطلقة الذاتيّة، نافرة من قضْيَنَة الكتابة، تسامٍ أو عدمية سيّان، سببها الأساسي التوقف نهائيا عن التلقي وموت البهرة بأي شيء وكلّ شيء، مصحوب بنفورٍ موازٍ من "الثورة" منذ اللحظة الأولى كوني أعرف جيداً كيف يكون عنف السقوط إلي الواقع الثقيل بعد عنفوان التحليق، حدث ما توقعته بالضبط: بدأ الكثيرون بعدما انفرط عقد الأحداث في التشقق والانهيار، كثيرون فقدوا أعصابهم وعقولهم وجنّوا بالجملة، لم يحتملوا السقوط المحتّم، ظلت أرواحهم معلقة إلى الأبد في برزخ لحظة الثورة الأولى، يموتون شوقاً لاستعادة لحظة التحليق، غير مصدّقين كونها كيتشاً، وكيف ذلك وقد توحّدوا مع الثورة حتى تجمعت ذواتهم في نقاط كثيفة تدور عبر الزمن حول نقطة واحدة هي لحظة الانفجار، لقد انفجرت الدوامة، فتناثروا ذرات، تاهوا، وللأبد.

 انسحبتْ العدمية الفكرية الجديدة على الحياة كلها فلم أعد معنيّاً بأيّةِ أفكار تستلبُ من وجودي المادي ذرة واحدة ولأحب نفسي أكثر وأنا أتجمل بالأفكار. أمست الأفكار بالنسبة لي كساعة في معصمي، مجرد بضاعة للتباهي، لكني لم أعد مستعد لأن أموت من أجل ساعة المعصم، إنها حتمية المادة أولاً وأخيراً. من اللطيف أن تكون المصطلحات الحضارية المتداولة، تلك الموحية بالخفة والتحرر من تراث ديني ومجتمعي طويل، مجرد ستيكر متداول أنيق يجعل الفرد مقبولا في المجتمع المتحضر، لكن من المستحيل أنْ يكون لهذه الأفكار وجود عميق في حياته وإلا فسيكون التوحد والتماهي المطلق معها مأساة إنسانية شديدة الثقل، لا تعني إلا المزيد من التكريس للمسوخية والتشيؤ، كيتش يختزل الأفراد ويحوّلهم إلى كيانات أيديولوجية بالكامل، إذ يصبح هنا التفاعل الحقيقي مع الحرية نوعاً جديداً من الاستعباد، نوعاً من الثقل سببه محاولة اعادة استيلاد الخفة التي لا تحتمل من قلب الواقع الثقيل، فيها يغدو الفرد أسيراً لوهم في رأسه، يحارب من أجل أطروحات استقطابية ثورية متطرفة ضد الكيتش تُعتبر بذاتها نوعاً من الكيتش. هناك أيضا علكة الديمقراطية التي يتداولها الجميع، باعتبارها الخلاص الوحيد والنهائي للشعوب، والديمقراطية في العصر الحالي تكريس للبيروقراطية والأوليجاركية، أو تكتشف أخطر كيتش في تاريخ البشرية: إنه كيتش التمرد على الكيتش!، الكيتش الذي يدمنه المثقف لاحتياجه المريض إلى إثبات أن "الكل باطل، وأنا نبي هذا الزمان والمخلّص المنتظر"،  فيحاكم العالم بالأيديولوجيا عامداً إلى هدم وتدمير كل ما حوله بهوسٍ يقضي حتى على ذاته، الكيتش يحاصرُنا من كل جانب يتسرب إلينا من كل ثقب في هذا العالم والفرار من الكيتش مسألةٌ كيتشية، أصبحت في أيامي الأخيرة أكثر تسامحاً مع الكيتش أراهُ في جوهره تعبيراً عن كل ما هو جميل وإنساني وساذج وبريء، وهو أيضاً كابوسٌ جاثمٌ مستديم لا حل له إلا الاستئناس والتدجين ومحاولة التعايش والتفهم والاستمتاع بعناصره التي يغلب عليها التحديق في التافه والطفولي والساذج والمبتذل والطريف من الحياة وهو ما تجلى في رفض الثقافة كلية بصفتها قادرة على تدمير المتعة العاطفية البدائية البسيطة.

 في أحد النصوص، تتحدث الراوية عن حالة من العجز الجنسي لدى عشيقها الأديب والمثقف والمفكر، فالمثقف، صاحب الذات الخاوية المتضخمة، يدفعه ارتخاؤه المزمن و الشعور بالقهر والدونية مع امرأته ليس فقط لإنكار عجزه، بل إلى افتعال صورة براقة لذاته أمامها وأمام المجتمع، إنه يحدثها عن الحب دون أن يحب، يدردش حول نظريات فرويد عن الجنس بأكثر مما يمارسه معها فعلياً، لتردد في أعماقها صرخة متحشرجة تنويعة على صراخ المظاهرات "يسقط يسقط سيجموند فرويد". هي في أقصى حالات اليأس ترغب في مظاهرة مدوية داخل ذاتها المحبطة لإسقاط النظرية والتنظير، تتمنى أن تسافر إلى مايوركا، مدينة "إكزوتيك"، كي تمارس الحب مع رجل غير مثقف، غريب، مع رجل تختلف ثقافته عن ثقافتها لا يتحدثان نفس اللغة المشتركة، هذه الرغبة في الفرار التي يصرخ بها النص هي رغبة القاريء المخدوع في العودة إلى عالمٍ "طبيعي"، عالم بلا ثقافة، بلا تنظير، وبلا ألاعيب لغوية أو فكرية، ثم تنتهي الحالة الجاثومية برغبتها الوحشية في قضم قضيب المثقف العنين الغارق في التنظير، الثرثار العاجز عن الفعل، غضباً من محاولاته المريضة ليّ عنق الحقائق وتقديم قراءات مزيفة للتاريخ تخدم ذاته الضيقة وموقفه الشخصي مطلق الانحطاط من الحياة. الراوية في النص هي المعادل الرمزي للمتلقي أو القاريء بينما المثقف العنين هو المعادل الموضوعي للمفكر أو المبدع، وأيضا المعادل الرمزي للخواء و زيف الثقافة وقدرتها على تدمير حياة البشر وافساد عقولهم ونفسياتهم، أما العملية الجنسية فهي المعادل الموضوعي للعملية الابداعية ذاتها تلك التي لا يمكن أن تتم إلا بين مبدع ومتلق، الانتصاب أوالتدفق هو العامل الحاسم في نجاحها، ومهما كانت المرأة إيجابية وفاعلة ومبادرة في ممارسة الجنس فإن العملية في صورتها الطبيعية يستحيل تمامها بغير الدور المحوري للانتصاب الذكري باعتباره المعادل الموضوعي في النص للفعل الابداعي عند الرجل أو المثقف. ينتهي النص نهاية غامضة تتجلى في رغبة المتلقي العارمة في التخلص من سطوة المبدع الإجراميّة على وعيه، غضباً من محاولة الأخير إفساد عقل الأول وأحكامه المنطقية على الأحداث والأشياء والتاريخ، ينتهي بلحظة خفة تكاد ألا تحتمل، تتجمع فيها أبخرة الانتقام والغضب والثورة والقدرة على تجاوز الهواجس الحضارية التي تمنع البشر من ارتكاب جريمة القتل باعتبارها فعلاً مُخالفاً للقانون، يُختتم النص برغبة الراوية في التحرر من المثقف بقتله، القضيب: الرمز التاريخي للسيطرة، للتخلص مرة واحدة وللأبد من الجهل والزيف والفشل والاستعباد والاذلال وتزييف التاريخ والعجز عن الفعل، بكل السوداوية والكابوسية الممكنة، عبر سردٍ جُوّاني مُقبض وقاسٍ وعنيف يستخدم لغة خشنة لا تتردد في السقوط في البذاءة.

 تبلور تأثير الرواية عندي في هجران التنظير نهائياً، اشتغلت بالعمل اليدوي، أصبحت لا أحتمل الأفكار، حتى الأفكار العامة الرائجة مثل الليبرالية و الفيمنستية والباسيفستية، ازدريتها تماماً، بت ذكورياً فاشيستيّاً، ما يرجع أغلبه إلى طبيعة عملي، ألفظ الأفكار المتمردة معتبراً الليبرالية هي التنظير الأكاديمي المهذب للهمجية: "الليبرالية هي الهمجية" ولقد كنت همجياً زمناً طويلاً، هكذا رددتُ بيقين كيتش الذكورة الذي ليس منه بد. الشعور الملح الأقرب إلى الضمير المعذب لازال يدفعني لأن أكتب، لكن بقواعد جديدة شديدة الصرامة أهمها العمى والصمم والخرس للتخلص من الخدر المخيف الذي يبثه الثناء في العروق، الشتائم أمرها سهل، المشكلة الحقة في"التثبيت" الذي يمارسه بسهولة رفاق الكار على بعضهم بعضاً، أمست العدمية مذهبي المريح كما أراها، ثم الجنوح إلى الخشونة في التعبير. أكثر من ذلك كان لهذه الرواية الفضل في كشف وتعرية الكيتش الذي كان يلهث وراؤه المثقف: كيتش "الفخامة المدوية" الكيتش الأرخص والأكثر استهلاكاً وتقزيزاً في التاريخ.

 الآن، عندما يمر شريط لحظات الخفة التي تكاد لا تحتمل، اللحظة التي بدا فيها التغيير لنا، ولأجيال آبائنا، وكما سيبدو لأجيال أبنائنا حلماً حقيقياً واقعياً مطلقاً يافعاً شرساً وجميلاً، ومشجعاً على ارتكاب العنف المجاني وتمزيق القيود والتقاليد وكسر أنف السلطة، اللحظة التي كان الكل فيها على استعداد للمقامرة بوجودهم ذاته قبل أن يضربهم"الواقع" الثقيل بصلفه البارد، أتأمل الصور، وأفكر، فيما كان من الممكن أن يكون، لو استمرت لحظة التحليق التى لا تحتمل هذه إلى الأبد، بغير أنْ يُكبلنا الثقل "الذي ليس منه بد".

الجمعة، 1 نوفمبر 2013

ما وراء الأرق

النوم هبة إلهية، لولاها لاجتاح العالم الجنون.
 ~ يوسف زيدان



 يتربص البؤس بالإنسان أينما كان كظلِّهِ، إنه يلاحقه حتى إلى سريره. الساعة الواحدة ليلاً، أتقلب على هذا الجانب حيناً ثم أتقلب على الجانب الثاني حيناً آخر: لا أشعر بأي إرتياح. ما الذي يجري؟! إنني لا أستطيع أن أنام. ما من فقدان يرعب الإنسان ويثير ذعره ويؤثر فيه مثل فقدانه القدرة على النوم. إنه يرمي بالفرد خارج المجرى الطبيعي للأشياء. كل الأحياء نيام إلا أنت، كل البشر ينعمون بغيبوبة النوم، بينما أنت تراقب التحرك البطيء للثواني والدقائق.

 زمن الأرق زمن صعب: إنه الوضع الذي تجد فيه نفسك في عزلة مطلقة، لا وجود لشيء حقيقي إلا أنت والعدم. تقضي يوماً بطوله وعرضه في مصارعة تفاهات الحياة اليومية، وعندما تأوي إلى فراشك ليلاً تكتشف بأنه لا يرحب بك؛ تحاول التصالح معه بشتى الوسائل لكن لا شيء يجدي: لقد أصبح فراشك عدوك، إنه لم يعد حتى فراشاً، إنه بساط من الأشواك.

 ما هو الأرق؟! إنه شعور ماحق بإطلاقية الوعي والزمن. يذهب المرء إلى فراشه في المساء، وعندما يغادره في الصباح يلاحظ بأن شيئاً لم يتغير. إنه لم يتخلص ولو بمقدار ذرة من متاعبه وهمومه، لقد كانت ليلته استمراراً لثقل نهاره. والحق أنه لا وجود إلا لجنَّة واحدة على هذه الأرض: النوم. اعتبر هذا الأخير غيبوبة مخلَّصة. إنه يحررنا من الوعي الدائم بحضور الذات وحضور العالم. النوم استراحة وجودية ترمم الشروخ التي تحدثها مفاعيل الزمن في ثنايا الروح وجنبات القلب؛ ولولا هذه الاستراحة، التي هي أيضاً شكل من أشكال النسيان، لكانت أدمغتنا قد أصيبت بالتقيح من جراء الوعي المستمر بالزمن وأحداثه. بالنسبة إليّ، في كل مرة تحاصرني الحياة وتضيق بي السبل لا أعود أرغب إلا في شيء واحد: الغرق في بحر من النوم العميق.

 كل شخص يرزح تحت عبء الأرق هو فيلسوف رغماً عنه. ففي كل مرة يهجرني فيها النوم اقضي الليل بتمامه في مراجعة كل القيم. الصمت المطلق الذي يطبق على الكون في الليالي البيضاء يخلق مناخاً ميتافيزيقياً مثالياً للدخول في حوار حقيقي مع الأشياء، حتى الفلسفة، في لحظات كهذه، تنقسم إلى نمطين: الفلسفة التجريدية التي تملأ الكراسات الجامعية، والفلسفة الحية التي تبدأ مع منتصف الليل.

 ما يمكن أن يعانيه الإنسان المؤمن جراء الأرق هو دائماً وأبداً أقل حدة مما يمكن أن يتكبده غير المؤمن. الشخص الأول يتحمل التجربة لأنه ليس وحيداً، إنه برفقة إلهه. لكن الشخص الثاني ملزم بالتحلي بالكثير من الجَلَد؛ فكونه محاصراً بين الاقتناع بفراغ الأرض والاقتناع بفراغ السماء يجعل التجربة التي يمر بها أشبه بعبور الجحيم على انفراد تام، فلا قناعة أرضية تنتشله، وسمائه قد هجرها من فيها.

 في الواقع، لا تخلو تجربة الأرق من بعض الإيحاءات الدينية؛ فكلما وجد المرء نفسه منفياً خارج الصيرورة الكونية إلا وأمسى في حاجة ماسة إلى التحاور مع طرف ما. ولا يملأ وظيفة التحاور هذه إلا إله ما. لكن الإله الذي ينبثق من جوف خواء الأرق لا يتجلى كموضوع إيمان بل كحد وجودي. إنه النقطة التي تتوقف عندها كل قوانا الإدراكية؛ ونحن نعرف، على ما علمتنا التجارب، بأنه هناك دائما نقطة نهاية أو حد؛ ذلك أنه ليس من السهل على الإنسان النظر إلى العدم المطلق.

الاثنين، 7 أكتوبر 2013

صنم الأنا وشهوة التسلط




لا يوجد وهم طوال الحياة سبق للإنسان أن تعلّق به مثلما تعلّق بأناه. ما إن تجلس إلى احدهم، حتى يبدأ في تشغيل تلك الاسطوانة المعتادة: "أنا، أنا، ثم أنا". الإنسان بإمكانه أن يتنازل عن كل شيء، عن ثروته، عن عائلته، وربما عن الكون، لكنه لا يستطيع أن يتخلى قيد أنملة عن ضمير المتكلم. حينما تقول بأن الحياة لا معنى لها وبأن الله مجرد ضرب من الخيال، لن تثير غضب أحد، سيأخذ الكل كلامك على أنه تحليق فلسفي، لكن إن قلت نفس الكلام عن شخص ما، سيعترض عليك بشدة وقد يذهب به الأمر إلى اتخاذ بعض الإجراءات ضدك. هكذا نحن، عندما يتعلق الأمر بالأفكار الكبرى والنظريات العامة نتصرف وكأن الأمر لا يعنينا، لكن عندما تطال هذه الأفكار مجال مشاعرنا النرجسية وخصوصيتنا الفردية، نقيم الدنيا ولا نقعدها. إذا كانت الحياة لا معنى لها، من يمكنه أن يستثني نفسه من شمولية هذا الحكم؟! ، الأنانية عائق فكري يحول بيننا وبين الفهم الكوني. لم تحقق الفلسفات والمذاهب الخلاصية، على مر التاريخ، أي تغلغل حقيقي في المجتمعات البشرية؛ والسبب في ذلك يعود إلى أن الخلاص الذي تقترحه ثمنه تنازل الفرد عن أناه، فالسعادة بالنسبة لهذه الفلسفات لا تتحقق إلا في المجال الذي تنمحي فيه فردانية المرء وتضيع في اللاتمايز الكوني. ولكن من منا سيقبل بسعادة تلزمه بأن ينظر إلى نفسه كنكرة، فيما كبرياء الواحد منا يجبره على عدم التنازل حتى عن اسمه الشخصي؟!، حب الذات وانتفاخ الأنا يولّد العمى أحياناً. نحن لا نكره الآخرين ولا نفهمهم إلاّ لكوننا لا ننظر إلى أنفسنا كما ينظرون هم إلينا. لو تمكن لأحدنا أن يتجرد من أنانيته، للحظة واحدة، وتأمل ذاته من الخارج، لتساقط  لحم وجهه من الخجل، ولربما انتابته الرغبة في الاختفاء عن الأنظار للأبد. كل واحد منا يدعي بأنه يعرف نفسه حق المعرفة، لكن هذه المعرفة لا تكون أبدا بمستوى وضوح وعمق المعرفة التي يكوِّنها الآخرون عنا، إنها نفس المشكلة القديمة: أنانيتنا وعي زائف يقف بيننا وبين الأشياء كما هي.

 بما أن التنازل عن الأنا يعتبر شبه مستحيل ويتبدّى كضرب من الخيال الفلسفي، اقترح أن يقوم الواحد منا، وذلك من حين لآخر، ببعض التمارين للحدّ من الزهو وانتفاخ الذات. وليست هذه التمارين شيئاً آخر سوى أن يتعود المرء على التفرج على ذاته بنفس الطريقة التي يتفرج بها هو نفسه على مسرحية هزلية، وأن يعتبر أي سوء يحصل له كما لو أنه يحصل لشخص غريب لا تجمعه به أية علاقة. يجب أن اعترف بأن أجمل الإشراقات الفلسفية التي عشتها هي تلك اللحظات التي كان يكتسحني فيها الشعور بكوني مجرد شبح، إنها لحظات لا يعود المرء يلمس فيها أي خيط يربط بينه وبين ذاته، هوة سحيقة تفصل الذات عن وعيها الذاتي. في الحقيقة، لا شيء يسبب الإرهاق والضجر أكثر من الوعي المتواصل بالذات، لذا يجب أن نتمرن على اختزال وجودنا إلى الدرجة صفر من الوعي، وأن ننخرط في الوجود انخراط النباتات فيه.



 المجتمع عبارة جحيم من الجَلْد المتبادل؛ الكل يريد أن يتسلط على الكل. دلوني على إنسان واحد لا يُفعِّل ميوله الديكتاتورية!، كل واحد منا يسعى إلى أن يكون الأول في أي تنظيم يقع تحت يديه، سواء كان هذا التنظيم دولة أو طائفة أو قبيلة أو حتى أسرة. من بين مجموع السكان لأي بلد ما، لا يوجد شخص واحد لا يتمنى، على الأقل في لا-شعوره، أن يكون المواطن رقم واحد في بلده. لا أحد منا يكتفي بذاته؛ لا أحد منا يتحمل عدمه الداخلي، الكل يتطلع إلى العالم الخارجي بحثا عن زمرة من العبيد ليصب عليهم جام غضبه و كراهيته، بلا مبالغة الكل عبيد لمن يرفض الخضوع ويلوح دوماً بسوط تسلطه.

 بداخل كل إنسان يرقد ديكتاتور؛ وعندما تتاح له الفرصة لممارسة مواهبه الاستبدادية ينضاف قدْر من الشر إلى العالم. إن الإنسان لا يكون طبيعياً إلا إذا كان في حالة من الضعف والإحتياج؛ وإن كان لكم شك في الأمر، إمنحوا أكثر الناس تواضعاً وأشدهم ورعاً، قدراً من المال والسلطة وسترونه كيف سيتحول إلى فرعون آخر. شهوة السلطة متجذرة في نفس كل واحد منا، ولا ينقص إلا بعض الشروط السياسية والمادية لكي تسقط كل الأقنعة وطلاء الوجوه لتظهر الهوية الحقيقية للطاغية الذي يسكن جنباتنا.

 "حرية، مساواة، إيخاء." هذا شعار جذاب وطموح لكل ثورة تريد أن تتقدم بالمجتمع خطوات إلى الإمام، لكن مثالية هذا الشعار تتناقض على طول الخط مع ما يعنيه مفهوم المجتمع الإنساني في حد ذاته؛ حيث الكراهية المشتركة وما يترتب عنها من قهر وتجبر وتسلط. حاول فقط أن تطبق مكوناً واحد من مكونات هذا الشعار؛ أي حاول أن تكون إنساناً حراً أو أن تكون أخاً للجميع وسترى كيف ستموت من الجوع. المجتمع لا يقبل بالمثل والأخلاق السامية إلا في المواعظ والخطب العصماء؛ لكنه في الواقع لا يعترف إلا بمبدأ هوبس فقط: "الإنسان ذئب للإنسان."

 في الواقع لو قمنا، بطريقة ما، باجتثاث هوى التسلط من قلوب البشر، لربما أدى هذا بالمجتمع والتاريخ إلى أن يفقدا الكثير من ديناميكيتهما؛ فالتاريخ، مثلا، لا يحركه بحث البشر عن العدالة بقدر ما يحركه تعطشهم للسلطة؛ الذين يوجدون في قاعدة المجتمع لا يريدون فقط إقتسام الثروات مع الذين في القمة، بل يريدون كذلك أن يضعوهم تحت تصرفهم لكي يذلوهم ويحتقرونهم، إنه الانتقام الدوري، بنزين كل القلاقل والثورات.

 مفهوم السلطة يسبب الذعر؛ وما يرعب فيه أكثر هو أنه ثاوياً في طبائع كل الأشياء، من حركة الإلكترون إلى حركة كل المذاهب والكتب المقدسة؛ بل يمكنني القول بأنني لا أرى في وجه كل طفل بريء إلا ديكتاتوراً في حالة كمون.

الخميس، 5 سبتمبر 2013

ضجر سيزيف

يوماً ما ستدرك أن السبب الأهم لإعجابك الشديد ببعض الأشياء، هو جهلك التام بتفاصيلها.



 شدة الإدراك أحياناً تبدو لعنة لا تتلاءم والسير الطبيعي للحياة؛ ذلك أنه كلما ازدادت رؤيتنا للأشياء اتساعاًَ، كلما ضاق معها معنى الحياة. من أصغر طفل فينا إلى أكبر فيلسوف. عندما تتولد لدى الطفل فكرة واضحة غير ضبابية عن الميكانيزمات التي تعمل بها لعبته ويبدأ تفكيكها قطعة تلو الأخرى يزول لديه على الفور أي شغف بها. نفس الشيء ينطبق علينا، نحن الكبار، عندما نكتسب معرفة عميقة بالتكتيكات والخيوط التي تحرك هذه اللعبة الكبيرة التي تسمى بالحياة.

حيوان رومانسي

 التأمل المفرط والمطول بمكونات الحياة ومجرياتها يحيلها إلى عدم. لننظر، مثلاً، في الحب: إشراقاته تنافس شطحات المتصوفة وانخطافات الموسيقى؛ إنه يتجلى كأعظم شعور إنسي على الإطلاق، لكنه، في العمق، يخضع لإنقباضات المسالك البولية ومستويات التستوستيرون في الدم. فعندما تتراخى تلك الانقباضات ويضعف تركيز الهرمونات، تخبو فورة الحب ويصبح موضوع اقتراب الجنسين من بعضهما بعضاً غير مفهوم بالمرة. إذن، يكفي القليل من الموضوعية والتجرد ليكتشف المرء بأن كل تلك الحرارة والاحتدام، اللذين يأخذان من السرير مسرحاً لعملياتهما، لم يكونا سوى استراتيجيات بيولوجية لضمان استمرار النوع.

 لا يقع الإنسان في الحب لأنه حيوان رومانسي فقط، بل لأنه يخاف الوحدة. عندما تنظر إلى زوج يعشق بعضهما بعضا، فاعلم أن القصة بينهما تتعلق بكائنين وحيدين يحاول كل واحد منها الذوبان ونسيان ذاته عبر الغرق في ذات الآخر. خواء الوحدة خواء قاتل والاكتفاء بالذات أمر مستحيل، فنحن نحب ذواتنا التي تتجلى من خلال الآخرين؛ لذلك لا يوجد رجل واحد لا يهرع إلى الارتماء في أحضان المرأة. وحده خفقان الأفئدة ينتشل المرء من وطأة الضجر الكوني؛ فيضفي على الوجود بعض المعنى ويؤثث زواياه الفارغة. ولولا الطابع الحزين للوجود لما تجاوز الحب مستوى كونه تمرينا جنسياً؛ فالحب لا يكتسب عمقه إلا من كونه نوعاً من الشفقة المتبادلة. لماذا يجب علي أن أحب شخصاً يسير في الحياة بخطى ثابتة؟! هل هو بالفعل في حاجة إلى دعم الحب ودفء العاطفة؟! المرأة الجميلة والناجحة تثير إعجابي، لكنها لا يمكن أبداً أن تخترق قلبي؛ فكلما كانت المرأة جميلة وتثير اهتمام الآخرين، كلما انغلق قلبي تجاهها. لا أحب المرأة إلا إذا كانت وحيدة أو كانت من أولئك اللواتي دهستهن الحياة وظلمتهن الطبيعة بمنحهن وجوهاً لا تتمتع بالسيمترية والجمال المؤسسي الفاقع، فأصبحن يعشن على هامش دائرة الرجال والآخرين. الحب إما أن يكون ممارسة عزائية أو لا يكون. فقط عندما نمارسه لأجل مواساة الآخر ومسح دموعه؛ يتفوق الحب عندئذ على تكتيكات الطبيعة وميول الجنس، فيتوج نفسه أحياناً بالتضحية والإيثار وهذه هي أكثر التفكيكات الموضوعية للحب.

***

 العقل يفضح ألاعيب الحياة ويعريها. ولو افترضنا أننا كائنات عاقلة إطلاقاً، لكنا قد قدمنا استقالتنا من العالم منذ بدء الخليقة. وإذا كنا لا نزال لحد الآن نملأ هذا الكوكب لغطاً وضجيجاً، فالفضل في ذلك يعود إلى حرارة الرغبة وعماء إرادة الحياة؛ بدونهما يصبح القلب الإنساني مجرد عضو أجوف لا يثير إلا اهتمام الأطباء. إذن، فما يدفع المرء إلى التحيز إلى هذا الطرف أو ذاك لا يعود إلى ذكائه أو ثقافته بقدر ما يعود إلى شغفه أو تعلقه بالموضوع؛ فالشغف هو الذي يطمس شكوك العقل ويدفع تحفظاته العدمية، ويُمكِّننا من الاندماج مرة أخرى في حماقات القطيع. وهكذا، فالواحد منا لا يمكن أن يكون عاشقاً وفيلسوفاً في نفس الآن؛ ذلك أن تفكيكات العين الفاحصة لا تتلاءم و هيامات القلب النابض. الذي يحب لا يتساءل أبداً لماذا يحب، والذي ينغمس في مشروع ما لا يتوقف أبداً ليتفكر في دلالة معنى ما يقوم به: فحالما يبدأ المرء في تأمل حبه لهذا الشيء أو ذاك، يجد نفسه وقد قذف به خارج التجربة ويصبح موضوعه كتأمل دواة حبر فارغة، إنه لم يعد عاشقاً على الإطلاق، لقد أصبح، الآن، محلّلا نفسانياً. هذا إذاً، هو الحب: أطروحة مضادة للمعرفة ومولِّد لأكبر الأكاذيب التي شهدها التاريخ البشري. وكل خطوة إلى الأمام في الحب تساوي خطوة إلى الوراء على مستوى النزاهة الفكرية والحياد الواقعي.

 من وجهة نظر موضوعية، لا يوجد خير ولا شر، لا جمال ولا قبح؛ والذي يتمكن من التعالي عن المذاهب والإيديولوجيات والتجرد من الأهواء والأحكام المسبقة سيرى الأشياء كما هي في حد ذاتها-شديدة التجريد؛ أي العراء التام والبساطة الكاملة. التعدد الذي يطبع العالم والتراتبية التي تحكم أوصاله ما هي إلا أوهام تعشش في العقول الضيقة وأشباح تسيطر على القلوب الضعيفة. يكفي فقط أن يعلّق المرء حماسه لبعض الوقت وسيرى بأم عينه كيف سيتفكك أمامه العالم وستهوى معظم الأشياء إلى السفح بجنون، وكيف سيتساوى الشيطان مع الملاك، والباطل مع الحق، والعدم مع الوجود. باختصار، كلما تأمل المرء الأشياء بقلب جاف وأعصاب باردة سيظهر له العالم في حقيقته الخفية: مستوى مسطح بل عمق وبلا ارتفاع.

 لا يحسم اختياراته في هذا العالم إلا المتعامي أو الذي لم يسبر غور الأمور جيداً. من ينظر مليّاً في كل الأوجه الممكنة لأمر من أمور الحياة، لابد وأن يصاب بالجمود؛ سيظهر له بأنه ليس هناك توجه أفضل من توجه آخر، أو اختيار أصوب من اختيار ثان، كل شيء متماثل؛ هكذا سيكون استنتاجه الأخير وهو ينظر إلى العالم في شموليته. بصره الثاقب يجرّد الظواهر من كل ادعاء بالواقعية، ويفضح الصورة الحقيقية للحياة: أنها بالنسبة له، مجرد مملكة من الأشباح.

 كل إنسان يبدأ الحياة بالشغف ثم ينهيها بالشعور بالضجر. بمجرد ما يخطو المرء أولى خطواته في هذا العالم تترسخ لديه القناعة بأن هذه الحياة معين لا ينضب من الفرص والإمكانات؛ ولكنه حالما يبدأ يتعمق تدريجياً في الأشياء، تأخذ رياح الضجر في الهبوب، وتبدأ قناعة أخرى تلوح في الأفق: لا فرق جوهري بين الفعل واللافعل، بين السطح والعمق. منذ طفولتي، وإلى الآن، وتجربتي مع الزمن تجري بين الانغماس التام أو الانتظار المميت. لازلت أذكر كيف كنت أشغل نفسي بنشاط طفولي، ولكن ما كانت تمر ساعات قليلة حتى كان يجتاحني الإحساس بالخواء فأرمي بكل شيء جانباً وأنزوي في مكان ما منتظراً أن تحصل معجزة أو شيء كذلك. كانت هذه أول تجربة لي مع الضجر، وكان هذا هو أول شعور فلسفي لدي بخواء الأشياء.

 فيما مضى كنت اعتقد بأن البؤس مشكلة اقتصادية، لكنني عندما أنظر، الآن، جيداً في وجوه أبناء الطبقات الميسورة تتكون لدي القناعة بأن البؤس الإنساني هو أعمق بكثير مما نعتقد. عندما تنظر جيداً في تلك الوجوه تجدها تقول لك بأنها جرَّبت كل رغبة، وأشبعت كل نزوة، وبأنها تملك كل شيء إلا حلاً لمشكلة الضجر. والحق أن من يبحث عن حل لمشكلة الضجر كمن يبحث عن حل لمشكلة الوجود في حد ذاته. في هذه الأيام، عندما تشتكي من الضجر أمام الناس، تجدهم ينظرون إليك بعين الريبة معتقدين أن ما تحس به من ضجر مرده إلى كونك إنساناً كسولاً أو لأن حياتك اليومية تفتقر إلى التنظيم والبرمجة. ولكن الضجر الذي يجتاحني في كل يوم وليلة لا علاقة له بأي واحد من هذه الأسباب؛ إنه ليس بذلك الضجر الذي يمكن أن تقضي عليه بالانخراط في عمل جاد أو نشاط مسل؛ إنه ضجر يمتد لشهور وسنوات، ضجر عميق.

 أحياناً، أكون منغمساً حتى الأذنين في نشاط خلاق، أو مجتمعاً ببعض الأصدقاء، أو أكون متأملاً لمنظر طبيعي، وفجأة أبدأ استشعر نوعاً من الخواء يتسلل إلى روحي، إنه خواء ينزع عن الأشياء من حولك كل معنى وجاذبية فجوة عدمية تبتلع كل معنى للوجود؛ فتختزل، بذلك، قيمة الوجود إلى مستوى الصفر، ولا يعود عندئذ يهمك أي شيء آخر إلا إيجاد إجابة لسؤال: "ما المغزى من وجودي هنا في هذا العالم؟!". مَر عليّ زمن كنت أجاري فيه الحياة في كل شيء، كنت أتأرجح بين هذه الرغبة وتلك، وأقفز من نزوة إلى أخرى، ولم أكن أعرف حتى بأن للضجر وجوداً. وكيف كان لي أن اعرف بوجوده وأنا لم أنزل إلى أعماق الأشياء بعد ؟! إن الأشخاص الذين لا يضجرون هم بشكل بسيط مجرد أطفال مازالوا غارقين في البعد المادي للوجود ولم يبرحوا سطح الأشياء بعد.

 أستطيع أن أقيس اليقظة الفلسفية لكل رجل من خلال موقفه من مشكلة الضجر؛ فكلما كان الرجل يعتبر الضجر معطى وجودياً لا فكاك منه، كلما أثبت بأنه رجل قد خَبَرَ الأشياء وعرف طبيعة الأمور. ولكن أغلب بني الإنسان لا يتفاجئون من شيء آخر أكثر من تفاجئهم من وجود الضجر؛ إنهم لا يكفُّون في سلوكياتهم وأدبياتهم عن النظر إليه كخطأ في نمط العيش؛ فتراهم بذلك يهرولون لفعل أي شيء لتفاديه أو حتى قطع دابره. ولكن موقفاً كهذا من الضجر ينم عن سذاجة ميتافيزيقية وأحكام مسبقة تتجلى في اعتقادنا بأن للحياة مضموناً أو معنى ما، فيما الحياة، على ما تبدي لنا التجارب، لا تتضمن أي معنى ولا تسير نحو أية وجهة. وعندما أشير إلى الحياة، فإنني أعني بها هذا التدفق الجارف من الرغبات الفوَّارة والدوافع العمياء التي تتابع وفق إيقاع سريع لا يترك للإنسان أي لحظة ليسترجع أنفاسه؛ فلا يخرج هذا الأخير من غمار رغبة ما حتى يجد نفسه ملزماً بخوض غمار رغبة أخرى؛ ذلك أنه لا أحد يستطيع أن يقيم في الفراغ الفاصل بين الدوافع والميول، إنه فراغ قاتل ولا تتحمله إلا نفوس قليلة.



 في إيقاع وجودي كهذا، لا يمكن للمرء إلا أن يكون حيواناً بائساً يعيش حياة تأرجح لا يهدأ. تأرجح بين دفع الأهواء وجاذبية الأشياء من حوله؛ وحالما يهدأ كل هوى وتنطفئ كل رغبة يسقط  في الفراغ المطلق للضجر.
 ما من شك في أن كل إنسان يدب على هذه الأرض إلا وقد مر بتلك اللحظات التي يتوقف فيها كل شيء عن الحركة ويخضع العالم لجمود رهيب، وما من امرئ إلا ويعرف شيئاً عن تلك الطريقة التي يتجلى بها الزمن في أيام العطلات والجمعة أو ما بعد الظهيرة؛ فخلال لحظات زمنية كهذه، وهي نماذج مناسبة للتأمل والانعكاس على الذات، يستشعر على نحو شديد: الثقل الماحق للانهائية الزمن، ويسمع على نحو حاد التكتكة البطيئة لعقارب الساعة؛ إنني اتحدث هنا عن زمن يطبعه الضجر ويلفُّه الخواء وتنتفخ فيه كل ثانية إلى أن تصبح حدثاً مستقلاً بذاته؛ أما الدقائق والساعات فتصبح مسرحاً لأهوال وعذابات لا تطاق.

حينما تتجمد الدقائق والساعات، ولا تعود الأيام تتقدم بأكثر من سرعة السلحفاة، كيف لا يمكن عندئذ للوجود أن لا يفقد كل معنى ومصداقية؟! وكيف، إذاً، لا يمكن للمرء أن يتساءل عن المغزى من كل هذا الركض وراء المثل والأهداف؟! وما الفائدة من البحث في هذا العالم عن كل تشكّل أو تغيير؟! إن هذه الأسئلة الحارقة هي ما يمثل الجانب الميتافيزيقي من الضجر، والإنطراح المفاجئ لها يكشف عن بعد آخر للحياة ما كنا لنستشعره من قبل: بُعدها السيزيفي. في بعد كهذا، يصبح الانتقال من يوم لآخر عملاً عبودياً لا يحتمل، أما الحياة فتصبح دورة طويلة من الانتظار العبثي. هذا ما يمكن أن يختبره المرء في واضح النهار، أما عندما تغزوك مثل هذه الأحاسيس والأسئلة بالليل؛ حيث يكون المرء بمنأى عن صخب العالم وضوضاء البشر، فإن فعل الوجود في حد ذاته يأخذ بعدا مزدوجاً يلامس فيه الشعور بالعجز عن مواصلة الانخراط في سخافات الحياة والإحساس بالعزلة المطلقة والتيه اللانهائي. إن المرء، هاهنا، ليجد نفسه وجها لوجه مع الزمن في صيغته الجافة، بحيث لم يعد على الإطلاق بذلك الفضاء المؤثث بالأهواء والمكاسب والطموحات، إنه لم يعد إلا حالة من الفراغ المطلق مطعَّمة بمشاعر اليأس والإحباط.

 لطالما عرَّفنا الإنسان بأنه حيوان صانع، ولكن الإنسان لا يكون صانعا إلا لأنه يتوهم بأن لهذا العالم وجوداً حقيقياً، إذ يكفيه فقط أن يحافظ على مسافة بينه وبين أشيائه ليرى بطلانها التام. إنه كائن حبيس أهوائه وتصوراته، ولو تسنى له أن يُعلِّق ميوله ونزواته لبعض الوقت، لكان بإمكانه أن يرى كيف سيتحول كل شيء إلى جماد. إن الحياة بكل مقوماتها الحسية والجمالية ما هي إلا نتاج لإفراطات الخيال وهذيانات الروح وتوترات الجسد. فقط تعطيل مؤقت لغرائزنا يحول الحياة إلى حكاية ضاربة في الضجر غارسة في الملل؛ وبدون حرارة الليبيدو يصبح العالم صقيعاً مطلقاً. وهذه هي قصتنا مع الحياة التي لا نتحملها إلا بقدر ما تفرزه قلوبنا وعقولنا من أشكال الشغف والهلوسة.

 الوجود عارِِ، والإنسان لا يمكنه أن يستمر بدون مكاسب مادية أو طموحات مستقبلية؛ فهذه الأخيرة هي ما يشكل ديكور الحياة. ويكفي القليل من اليقظة الأنطولوجية ليستيقظ المرء من سباته الميتافيزيقي فيطلع على وضعه الوجودي الحقيقي: العراء. ولهذا السبب، لا تجد إنساناً واحداً على وجه هذه الأرض لا يعانق فكرة أو مثالاً ما. فنحن نؤمن بالعالم الخارجي حتى ننسى عالمنا الداخلي، أي ذواتنا. هكذا تجدنا ننغمس في الأعمال ونكرس كل جهودنا وطاقاتنا في تشييد الصروح وإقامة الآلهة، وكل هذا لأجل شيء واحد: قتل الوقت.

 لا شيء أثقل على قلب الإنسان من عطلة مطلقة يعيشها بلا متع ولا تسليات ولا حتى بعض المشاكل والمشاغل؛ وإن كان لكلمة الجحيم من معنى فهو عندما تفقد الحياة تأثيرها الإيروتيكي فتتحول إلى أرض جدباء يدب عليها كائن فارغ من كل هوى واندهاش. ولأجل هذه الاعتبارات، أجد نفسي دائما منجذباً إلى معشر الكسالى والعاطلين؛ فهؤلاء يعرفون أسراراً وجودية لا يعرفها المنشغلون من أصحاب الجهد والكد أو المخدَّرون بالمطامح والمطامع. فكونهم لا يتوفرون على وظيفة يشغلونها وتشغلهم، تجدهم يدخلون في حوار مباشر مع الأشياء؛ وهذا يمكّنهم من تأمل التدفق الرتيب للزمن والانشغال المرضي لأشباههم من البشر بشئون الحياة. من بين بني الإنسان جميعاً، وحده الشخص الكسول الذي لا يزال بريئاً؛ فإحجامه عن فعل كل خير أو شر، ورفضه الانغماس في غيبوبة الحياة العملية، يوفر عليه التورط في جريمة قتل الوقت أو الهروب من مواجهة الذات. وموقفه الفلسفي،هذا، من الأشياء مكنه من تبوأ مكانة المتفرج الكوني على سخافات البشر، وجعله المراقب الأعلى لتمظهرات الخواء واللاّجدوى في حياة كل واحد منا.




 إذا كان أصحاب الفلسفة الوجودية يعتبرون الضجر كوعي بالانفصال الجارح للكائن عن كيانه، فإن النسّاك والزهاد من أباء الصحراء كانوا يعتبرونه الطريق التي تؤدي مباشرة نحو الشيطان. ففي الوقت الذي يكون الناسك يقضي فيه دورة الزمن بين صوم بالنهار وصلاة بالليل، كانت بين الحين و الآخر تتسلل إلى قلبه أحاسيس وهواجس يمتزج فيها الكلل بالملل، والإحباط وعدم الرضى باليأس، ولطالما صورنا الناسك في لوحاتنا الفنية ينظر من نافذة صومعته إلى العالم الخارجي وكأنه يترقب مجيء أحدهم. إنها لحظات شك يُسائل فيها الناسك مغزى عزلته في قلب الصحراء؛ وهي أيضا لحظات غواية، فالإسكندرية بصخبها ومفاتنها لا تبعد عنه إلا مسافة يوم سيراً على الأقدام.




 في الحقيقة نحن لا نستمر في الحياة إلا بقدر ما يوجد في عيوننا من الغبار؛ ذلك أن التبصّر المطلق يفصلنا عنا وما حولنا والمجتمع؛ فنحن كلما تعمقنا في غياهب النفس وأسرار القلب، كلما قل عدد أولئك الذين يمكن أن نتواصل معهم؛ كما أن السير الطبيعي للحياة لا يمكن أن يتم بدون حد أدنى من العفوية و اللاوعي. وهنا يظهر جليّا الطابع الدرامي لحياة كل إنسان يتمتع بقدر كبير من الصحو الفكري و نفاذ البصيرة: إنه إنسان لا يستطيع أن يندمج في الحياة على نحو ما يقوم به باقي البشر؛ موضوعيته المطلقة ترغمه على البقاء على هامش الوجود؛ نظره المنفصل لا يفرق بين حديقة من الأزهار وحقل من الأشواك؛ ذهنه المتوقد يمنعه من التحيز إلى أي طرف من أطراف المجتمع، وكيف سيتحيز وهو لا يقلب فكرة في العطاء أو التضحية أو الاستشهاد إلاّ ليجد تحتها الزهو أو الأنانية أو التعطش للمجد والسلطة؟!، إنه مشبع بوعي كيتشي نافذ الثقل.

 لا شك أن إنساناً كهذا لديه ترسانة معرفية كبيرة تجعله متحرراً من كل الأوهام والأهواء والقيود؛ لكن تحرره هذا لم يحصل عليه إلا بعد أن هدم كل أصنامه وانهار كل شيء من حوله، إنه حر، لكنه في صحراء قاحلة ينازع الخواء والعراء وحيداً.

*اسطورة سيزيف