الثلاثاء، 5 نوفمبر 2013

أليس من ذلك بد ؟!


Not to be produced by Rene Magritte

 تلك الرواية سامة، ربما أغرب رواية في العالم، بما تمتلكه من قدرة على العبث بعقلِ قارئها، وفي الضرر المستديم الذي تخلفه في الشخصية والضمير. رواية "كائن لا تحتمل خفته" لميلان كونديرا تنخر بطريقة جهنمية في الدماغ. يتراكم أثرها الخبيث ببطء سماً زعافاً، لا في مشهد سادي "كيتشي"، كأفلام الرعب الهابطة لشرذمة من المراهقين يذبحون بعضهم بعضاً، أو عنف مباشر بالإمكان تجاوزه بإشاحة النظر أو غلق الصفحة، بل في تدمير مسلمات الوعي الأصلية التي يرتكز عليها كيان القاري؛ الإنساني والأخلاقي أيضاً، هذه الرواية كانت السبب المباشر في انتحار "أروى صالح" صاحبة العمل اليتيم "المبتسرون"، بعد أن تشربت بوعي الكيتش فعجزت عن التعامل مع الحياة، ألقت نفسها من الطابق العاشر. لم يحتمل صدقها الكامل وانسجامها مع مبادئها اكتشاف أن كل ذلك الزخم كان مجرد كيتش لا أكثر، نفاية، وهم مبتذل زائف، فن رخيص، ولما انقشع الوهم فقدت الحياة التي ارتكزت كلية على الوهم معناها وتفككت، فوضعت حدا لحياتها بعد أشهر قليلة من صدور الرواية.

 الكيتش دائرة يملأها الشر والجنون وعدم التسامح، وفقدان التسامح هو وكر الغواية لارتكاب العنف بكل اشكاله الفيزيقية وما وراءها، لا تعود مستعداً لقبول أي تناقض مع الكيتش، إذ لا يعود البشر بالنسبة لك عوالم حية مجبولة على التناقض، بل أشياء تضعها على طاولة "بروكست" التي يحددها الكيتش، تقطع رأس هذا، وتمط رجل ذاك، كي يتلاءما مع طول الطاولة، مع قالب الكيتش، فتصبح أكثر ثقلاً من غطاء رخامي لمقبرة جدرانها اليقين.

 أفسدت الرواية قدرتي على الحكم السليم على هذا العالم، أربكت ما كونته طوال حياتي من إدراك، ابتلعت القوة والاطمئنان بداخلي المرتكزين على حفنة من الأحكام الضميرية المعينة، على وجه التحديد طرحها القاسي للكيتش، وما يتبع انقشاع الوهم من خواء يعقب التخريب الكامل في العقل والشخصية، الكيتش: اللفظ الكابوسي. صدَّرت لي الرواية كامل العجز عن التذوق الإبداعي بفعل ارتباك قدرتي على الحكم لما سببته لي من خلل مدمر جعلني لفترة طويلة من الزمن أقيم كل شيء بتساؤل جوهره "أهو كيتشي أم غير كيتشي؟!"، توهمت أن كل شيء في العالم قد أصبح قالباً كيتشياً وأن كل ما قد يقال قد قيل من قبل فأرى البشر في انفعالاتهم المتشابهة نحو ذات الموضوعات يرجعون إلى أصلهم قطيعاً من الحيوانات القابلة للإيحاء. عجزت عن مشاهدة الأفلام والاستماع إلى الموسيقى بذات الحماس القديم، ثم لم يمض وقت طويل حتى انسحب ذلك العجز على فهم النكتة! عجزت عن التقاط خيط السخرية والكوميديا في الحياة والدراما، موسوم بوسم الجدية والجهامة، حيث الحياة قاسية، لا وقت للضحك. لم أعد أضحك، والعجز عن الضحك صنع مشكلة عنيفة، غير المشكلة الروحية، مشكلة فيزيائية بالتحديد: التغير الحاد في بنية عضلات الوجه بفعل التجهُم والتقطيبة المستمرة اللاشعورية، الأغرب أنَ العجز عن تذوق الجمال والتمتع بالفنون انسحب نهائيا على القراءة حصني وملاذي الأخير فتوقفت نهائيا عنها، لم تعد القراءة متعة، صارت عبئاً ثقيلاً مخيفاً، لم أعد أهتم بالكتب الجديدة ولم تعد الإصدارات الهامة من الأعمال العالمية تعنيني، أما الجرح الذي تركته بداخلي تلك الرواية فنزف في تحول وجودي كامل، تجلّى في القدرة بشكل غامض على العدوان الفيزيائي وارتكاب العنف، اللفظي والمادي، ودون أدنى ندم. كنت قبل أن أقرأ هذه الرواية بالفعل شخصاً يبدو مسالماً، لكن مع ضربة الوعي بمعرفة الكيتش والغوص فيه عبر التأمل المنفرد تكشف لي كيتشي الخاص، السافل الجميل المعذب المخرب، كيتش الحب ومعه كيتش التسامح والسلام، بدأ كيتشي الخاص يتشقق وينهار ومعه بدأت ركائز عالمي تنهدم سريعاً، ولم يكن الهدم سهلاً، الأمر يشبه فقدان الإيمان أو تقشير الجلد وترك الأعصاب مكشوفة كأسلاك كهربية عارية مغروسة في اللحم مباشرة، غير أن الكيتش حين سقط لم يخلف وراءه ذلك الفراغ المطلق المريح، أو ذلك الموات المسالم، بل أسرعت الكراهية من فورها لتحتل الفراغ الذي خلفه وراءه انهيار كيتش الحب، صنعت الكراهية عداوة بين شخصي والجميع، والكراهية تأكل صاحبها في النهاية حتى لا يتبقى منه شيء، أصبحتُ عصبياً وعدوانياً وضيق الصدر وسليط اللسان، وتفننت في خسارة الجميع، أصبحت أفعل ذلك بلا وعي تقريباً، بنوع من نزعة جبر التكرار-حيث يقوم المرء بفعل معين يعرف بعقله أنه يؤذيه ولا يستطيع أن يتوقف، كما في حالة من يجرحون أنفسهم.

 تبدّى لي بعدها بأشهر قليلة الكيتش المفزع الأكثر فداحة في تاريخي الشخصي وتاريخ البشرية: كيتش التمرّد والثورة. الكيتش الذي اعتمدته لسنوات في حياتي منذ سن الثانية عشرة حتى الربع قرن، لحظة؛ بل لحظات كثيرة من الخفة التي تكاد لا تحتمل، ليس أولها التشرد في الطرقات وليس آخرها الثورة على السلطة: سلطة الأب والمعلم والأكاديميا والقانون والمجتمع والدين، الثورة الشخصية التي انتهت بالفشل الذريع، بالضبط كالثورة الكبرى، و لذات السبب وتحت وطأة ذات آليات الفشل، حيث تتحرك الشعوب، الجماهير الغفيرة، بحماس في مواكب هائلة حارة، يقودها الشباب دائماً، تهفو إلى الخلاص من الظلم والقهر والعبودية، سعياً نحو عالم أنظف وأعدل، دون أن تدرك في وهج لحظة خفة الانفعال الثوري التي لا تحتمل أن الثورة تنتهي في كل مرة إلى ذلك التحالف الثقيل الخالد بين الديكتاتورية والبيروقراطية، الثورة: الخفة المُحلّقة التي تكاد ألا تحتمل، ثم البيروقراطية: الثقل النافذ المُميت، الذي ليس منه بُدّ، دولة القانون المزعومة التي تمنعنا من نيل حريتنا، حيث تصبح الدولة بكامل جهازها البيروقراطي مُعادية للفرد، لحريته وكرامته وإنسانيته، كانت البيروقراطية الفرنسية الأقوى نفوذاً بصفتها الأذرع الأخطبوطية للدولة، هي التي أخمدت حركة الطلبة في فرنسا ١٩٦٨ بالتحالف بين قادة النقابات البيروقراطيين والبورجوازيين لإنهاء الحركة الثورية بإلقاء بعض الفتات القليل للطلبة والبروليتاريا، وانتهت الثورة بشكلٍ غامض بعودة العمال المضربين إلى المصانع بالتدريج، ودون سبب واضح، فغضبت الكتلة الثورية ونددت بما حدث مرددة مقولة ليون تروتسكي: أشنقوا آخر بيروقراطي بأمعاء آخر برجوازي.

 بعد فترة، اعتزلت المشهد المتثاقف رسمياً وأصبحت "الناسك"، كانت المأساة من العنف بحيث بدأت تنمو وتتضخم لكن لم يكن مسموحاً لها أن تخرج فجعلتْ تنبعج إلى الداخل لتجرح وتشوه. غمرني شعور بالتخمة جعلني أتوقف عن المضغ والابتلاع، فلماذا آكل والأفكار تخرجُ من الأحشاء، بدأتْ التفاعلات الحارقة لكل هذا الدمار الشامل تطفو قليلاً في صورة نصوص مختلفة المذاق، مطلقة الذاتيّة، نافرة من قضْيَنَة الكتابة، تسامٍ أو عدمية سيّان، سببها الأساسي التوقف نهائيا عن التلقي وموت البهرة بأي شيء وكلّ شيء، مصحوب بنفورٍ موازٍ من "الثورة" منذ اللحظة الأولى كوني أعرف جيداً كيف يكون عنف السقوط إلي الواقع الثقيل بعد عنفوان التحليق، حدث ما توقعته بالضبط: بدأ الكثيرون بعدما انفرط عقد الأحداث في التشقق والانهيار، كثيرون فقدوا أعصابهم وعقولهم وجنّوا بالجملة، لم يحتملوا السقوط المحتّم، ظلت أرواحهم معلقة إلى الأبد في برزخ لحظة الثورة الأولى، يموتون شوقاً لاستعادة لحظة التحليق، غير مصدّقين كونها كيتشاً، وكيف ذلك وقد توحّدوا مع الثورة حتى تجمعت ذواتهم في نقاط كثيفة تدور عبر الزمن حول نقطة واحدة هي لحظة الانفجار، لقد انفجرت الدوامة، فتناثروا ذرات، تاهوا، وللأبد.

 انسحبتْ العدمية الفكرية الجديدة على الحياة كلها فلم أعد معنيّاً بأيّةِ أفكار تستلبُ من وجودي المادي ذرة واحدة ولأحب نفسي أكثر وأنا أتجمل بالأفكار. أمست الأفكار بالنسبة لي كساعة في معصمي، مجرد بضاعة للتباهي، لكني لم أعد مستعد لأن أموت من أجل ساعة المعصم، إنها حتمية المادة أولاً وأخيراً. من اللطيف أن تكون المصطلحات الحضارية المتداولة، تلك الموحية بالخفة والتحرر من تراث ديني ومجتمعي طويل، مجرد ستيكر متداول أنيق يجعل الفرد مقبولا في المجتمع المتحضر، لكن من المستحيل أنْ يكون لهذه الأفكار وجود عميق في حياته وإلا فسيكون التوحد والتماهي المطلق معها مأساة إنسانية شديدة الثقل، لا تعني إلا المزيد من التكريس للمسوخية والتشيؤ، كيتش يختزل الأفراد ويحوّلهم إلى كيانات أيديولوجية بالكامل، إذ يصبح هنا التفاعل الحقيقي مع الحرية نوعاً جديداً من الاستعباد، نوعاً من الثقل سببه محاولة اعادة استيلاد الخفة التي لا تحتمل من قلب الواقع الثقيل، فيها يغدو الفرد أسيراً لوهم في رأسه، يحارب من أجل أطروحات استقطابية ثورية متطرفة ضد الكيتش تُعتبر بذاتها نوعاً من الكيتش. هناك أيضا علكة الديمقراطية التي يتداولها الجميع، باعتبارها الخلاص الوحيد والنهائي للشعوب، والديمقراطية في العصر الحالي تكريس للبيروقراطية والأوليجاركية، أو تكتشف أخطر كيتش في تاريخ البشرية: إنه كيتش التمرد على الكيتش!، الكيتش الذي يدمنه المثقف لاحتياجه المريض إلى إثبات أن "الكل باطل، وأنا نبي هذا الزمان والمخلّص المنتظر"،  فيحاكم العالم بالأيديولوجيا عامداً إلى هدم وتدمير كل ما حوله بهوسٍ يقضي حتى على ذاته، الكيتش يحاصرُنا من كل جانب يتسرب إلينا من كل ثقب في هذا العالم والفرار من الكيتش مسألةٌ كيتشية، أصبحت في أيامي الأخيرة أكثر تسامحاً مع الكيتش أراهُ في جوهره تعبيراً عن كل ما هو جميل وإنساني وساذج وبريء، وهو أيضاً كابوسٌ جاثمٌ مستديم لا حل له إلا الاستئناس والتدجين ومحاولة التعايش والتفهم والاستمتاع بعناصره التي يغلب عليها التحديق في التافه والطفولي والساذج والمبتذل والطريف من الحياة وهو ما تجلى في رفض الثقافة كلية بصفتها قادرة على تدمير المتعة العاطفية البدائية البسيطة.

 في أحد النصوص، تتحدث الراوية عن حالة من العجز الجنسي لدى عشيقها الأديب والمثقف والمفكر، فالمثقف، صاحب الذات الخاوية المتضخمة، يدفعه ارتخاؤه المزمن و الشعور بالقهر والدونية مع امرأته ليس فقط لإنكار عجزه، بل إلى افتعال صورة براقة لذاته أمامها وأمام المجتمع، إنه يحدثها عن الحب دون أن يحب، يدردش حول نظريات فرويد عن الجنس بأكثر مما يمارسه معها فعلياً، لتردد في أعماقها صرخة متحشرجة تنويعة على صراخ المظاهرات "يسقط يسقط سيجموند فرويد". هي في أقصى حالات اليأس ترغب في مظاهرة مدوية داخل ذاتها المحبطة لإسقاط النظرية والتنظير، تتمنى أن تسافر إلى مايوركا، مدينة "إكزوتيك"، كي تمارس الحب مع رجل غير مثقف، غريب، مع رجل تختلف ثقافته عن ثقافتها لا يتحدثان نفس اللغة المشتركة، هذه الرغبة في الفرار التي يصرخ بها النص هي رغبة القاريء المخدوع في العودة إلى عالمٍ "طبيعي"، عالم بلا ثقافة، بلا تنظير، وبلا ألاعيب لغوية أو فكرية، ثم تنتهي الحالة الجاثومية برغبتها الوحشية في قضم قضيب المثقف العنين الغارق في التنظير، الثرثار العاجز عن الفعل، غضباً من محاولاته المريضة ليّ عنق الحقائق وتقديم قراءات مزيفة للتاريخ تخدم ذاته الضيقة وموقفه الشخصي مطلق الانحطاط من الحياة. الراوية في النص هي المعادل الرمزي للمتلقي أو القاريء بينما المثقف العنين هو المعادل الموضوعي للمفكر أو المبدع، وأيضا المعادل الرمزي للخواء و زيف الثقافة وقدرتها على تدمير حياة البشر وافساد عقولهم ونفسياتهم، أما العملية الجنسية فهي المعادل الموضوعي للعملية الابداعية ذاتها تلك التي لا يمكن أن تتم إلا بين مبدع ومتلق، الانتصاب أوالتدفق هو العامل الحاسم في نجاحها، ومهما كانت المرأة إيجابية وفاعلة ومبادرة في ممارسة الجنس فإن العملية في صورتها الطبيعية يستحيل تمامها بغير الدور المحوري للانتصاب الذكري باعتباره المعادل الموضوعي في النص للفعل الابداعي عند الرجل أو المثقف. ينتهي النص نهاية غامضة تتجلى في رغبة المتلقي العارمة في التخلص من سطوة المبدع الإجراميّة على وعيه، غضباً من محاولة الأخير إفساد عقل الأول وأحكامه المنطقية على الأحداث والأشياء والتاريخ، ينتهي بلحظة خفة تكاد ألا تحتمل، تتجمع فيها أبخرة الانتقام والغضب والثورة والقدرة على تجاوز الهواجس الحضارية التي تمنع البشر من ارتكاب جريمة القتل باعتبارها فعلاً مُخالفاً للقانون، يُختتم النص برغبة الراوية في التحرر من المثقف بقتله، القضيب: الرمز التاريخي للسيطرة، للتخلص مرة واحدة وللأبد من الجهل والزيف والفشل والاستعباد والاذلال وتزييف التاريخ والعجز عن الفعل، بكل السوداوية والكابوسية الممكنة، عبر سردٍ جُوّاني مُقبض وقاسٍ وعنيف يستخدم لغة خشنة لا تتردد في السقوط في البذاءة.

 تبلور تأثير الرواية عندي في هجران التنظير نهائياً، اشتغلت بالعمل اليدوي، أصبحت لا أحتمل الأفكار، حتى الأفكار العامة الرائجة مثل الليبرالية و الفيمنستية والباسيفستية، ازدريتها تماماً، بت ذكورياً فاشيستيّاً، ما يرجع أغلبه إلى طبيعة عملي، ألفظ الأفكار المتمردة معتبراً الليبرالية هي التنظير الأكاديمي المهذب للهمجية: "الليبرالية هي الهمجية" ولقد كنت همجياً زمناً طويلاً، هكذا رددتُ بيقين كيتش الذكورة الذي ليس منه بد. الشعور الملح الأقرب إلى الضمير المعذب لازال يدفعني لأن أكتب، لكن بقواعد جديدة شديدة الصرامة أهمها العمى والصمم والخرس للتخلص من الخدر المخيف الذي يبثه الثناء في العروق، الشتائم أمرها سهل، المشكلة الحقة في"التثبيت" الذي يمارسه بسهولة رفاق الكار على بعضهم بعضاً، أمست العدمية مذهبي المريح كما أراها، ثم الجنوح إلى الخشونة في التعبير. أكثر من ذلك كان لهذه الرواية الفضل في كشف وتعرية الكيتش الذي كان يلهث وراؤه المثقف: كيتش "الفخامة المدوية" الكيتش الأرخص والأكثر استهلاكاً وتقزيزاً في التاريخ.

 الآن، عندما يمر شريط لحظات الخفة التي تكاد لا تحتمل، اللحظة التي بدا فيها التغيير لنا، ولأجيال آبائنا، وكما سيبدو لأجيال أبنائنا حلماً حقيقياً واقعياً مطلقاً يافعاً شرساً وجميلاً، ومشجعاً على ارتكاب العنف المجاني وتمزيق القيود والتقاليد وكسر أنف السلطة، اللحظة التي كان الكل فيها على استعداد للمقامرة بوجودهم ذاته قبل أن يضربهم"الواقع" الثقيل بصلفه البارد، أتأمل الصور، وأفكر، فيما كان من الممكن أن يكون، لو استمرت لحظة التحليق التى لا تحتمل هذه إلى الأبد، بغير أنْ يُكبلنا الثقل "الذي ليس منه بد".

الجمعة، 1 نوفمبر 2013

ما وراء الأرق

النوم هبة إلهية، لولاها لاجتاح العالم الجنون.
 ~ يوسف زيدان



 يتربص البؤس بالإنسان أينما كان كظلِّهِ، إنه يلاحقه حتى إلى سريره. الساعة الواحدة ليلاً، أتقلب على هذا الجانب حيناً ثم أتقلب على الجانب الثاني حيناً آخر: لا أشعر بأي إرتياح. ما الذي يجري؟! إنني لا أستطيع أن أنام. ما من فقدان يرعب الإنسان ويثير ذعره ويؤثر فيه مثل فقدانه القدرة على النوم. إنه يرمي بالفرد خارج المجرى الطبيعي للأشياء. كل الأحياء نيام إلا أنت، كل البشر ينعمون بغيبوبة النوم، بينما أنت تراقب التحرك البطيء للثواني والدقائق.

 زمن الأرق زمن صعب: إنه الوضع الذي تجد فيه نفسك في عزلة مطلقة، لا وجود لشيء حقيقي إلا أنت والعدم. تقضي يوماً بطوله وعرضه في مصارعة تفاهات الحياة اليومية، وعندما تأوي إلى فراشك ليلاً تكتشف بأنه لا يرحب بك؛ تحاول التصالح معه بشتى الوسائل لكن لا شيء يجدي: لقد أصبح فراشك عدوك، إنه لم يعد حتى فراشاً، إنه بساط من الأشواك.

 ما هو الأرق؟! إنه شعور ماحق بإطلاقية الوعي والزمن. يذهب المرء إلى فراشه في المساء، وعندما يغادره في الصباح يلاحظ بأن شيئاً لم يتغير. إنه لم يتخلص ولو بمقدار ذرة من متاعبه وهمومه، لقد كانت ليلته استمراراً لثقل نهاره. والحق أنه لا وجود إلا لجنَّة واحدة على هذه الأرض: النوم. اعتبر هذا الأخير غيبوبة مخلَّصة. إنه يحررنا من الوعي الدائم بحضور الذات وحضور العالم. النوم استراحة وجودية ترمم الشروخ التي تحدثها مفاعيل الزمن في ثنايا الروح وجنبات القلب؛ ولولا هذه الاستراحة، التي هي أيضاً شكل من أشكال النسيان، لكانت أدمغتنا قد أصيبت بالتقيح من جراء الوعي المستمر بالزمن وأحداثه. بالنسبة إليّ، في كل مرة تحاصرني الحياة وتضيق بي السبل لا أعود أرغب إلا في شيء واحد: الغرق في بحر من النوم العميق.

 كل شخص يرزح تحت عبء الأرق هو فيلسوف رغماً عنه. ففي كل مرة يهجرني فيها النوم اقضي الليل بتمامه في مراجعة كل القيم. الصمت المطلق الذي يطبق على الكون في الليالي البيضاء يخلق مناخاً ميتافيزيقياً مثالياً للدخول في حوار حقيقي مع الأشياء، حتى الفلسفة، في لحظات كهذه، تنقسم إلى نمطين: الفلسفة التجريدية التي تملأ الكراسات الجامعية، والفلسفة الحية التي تبدأ مع منتصف الليل.

 ما يمكن أن يعانيه الإنسان المؤمن جراء الأرق هو دائماً وأبداً أقل حدة مما يمكن أن يتكبده غير المؤمن. الشخص الأول يتحمل التجربة لأنه ليس وحيداً، إنه برفقة إلهه. لكن الشخص الثاني ملزم بالتحلي بالكثير من الجَلَد؛ فكونه محاصراً بين الاقتناع بفراغ الأرض والاقتناع بفراغ السماء يجعل التجربة التي يمر بها أشبه بعبور الجحيم على انفراد تام، فلا قناعة أرضية تنتشله، وسمائه قد هجرها من فيها.

 في الواقع، لا تخلو تجربة الأرق من بعض الإيحاءات الدينية؛ فكلما وجد المرء نفسه منفياً خارج الصيرورة الكونية إلا وأمسى في حاجة ماسة إلى التحاور مع طرف ما. ولا يملأ وظيفة التحاور هذه إلا إله ما. لكن الإله الذي ينبثق من جوف خواء الأرق لا يتجلى كموضوع إيمان بل كحد وجودي. إنه النقطة التي تتوقف عندها كل قوانا الإدراكية؛ ونحن نعرف، على ما علمتنا التجارب، بأنه هناك دائما نقطة نهاية أو حد؛ ذلك أنه ليس من السهل على الإنسان النظر إلى العدم المطلق.