الجمعة، 2 أغسطس 2013

الكائن الأكثر تطرفاً

الإنسان هو أحد أخطاء الطبيعة. هذه قناعة ربما توصلت إليها حينما كنت أتسكع مع صديق لي في أحد السهوب المجاورة للقرية التي وُلدَ بها أجدادنا؛ ونحن نتبادل أطراف الحديث، أشار صديقي إلى واقع أن مجموعة من الأنواع الحيوانية، التي كانت تعيش هنا في يوم ما، قد انقرضت ولم يعد لها أي أثر. وتعليقاً على ملاحظة صديقي، قلت له بأن كل ما يتحرك تحت ضوء الشمس سيختفي إلى غير رجعة، وسيأتي يوم سنتحدث فيه عن انقراض آخر ذبابة؛ فالإنسان حيوان مبدِد مبيد ولديه نزعة مَرضية لجعل هذا العالم عالما قبيحا. فهو لا يقطف إلا ما هو أخاذ وجميل، و لا يترك إلا ما هو شائك وقبيح، خالقاً بذلك وجوداً لا بقاء فيه إلا لما هو ضارب في السوء والبشاعة.

 كل المخلوقات تعيش في انسجام تام مع الطبيعة باستثناء الإنسان وحده. فعلى مَر التاريخ أثبت هذا الكائن بأنه الأكثر تطرفاً، حيوان شاذ ولا يملك موقعاً مريحاً بين جموع الخلائق. إنه لا يكف؛ في أي نشاط من نشاطاته، عن التلويث وتشبيع الأجواء بشتى أنواع السموم والغبار. إذا جلست أمام الشاشة الفضية-شاشة تأخذك إلى جهنم-أو فتحت جريدة لن تجد إلا ذلك التغني شديد الابتذال بالحضارة الصناعية والتقدم في صراع التكنولوجيا؛ وأنا أتساءل هنا، بأي حضارة وبأي تقدم هذا الذي يمكننا التغني به ونحن لم يعد بإمكاننا ملء بالونات صدورنا إلا بالغبار!، إنني لا أكاد أرى أي خير في كل هذه القرون التي قضاها الإنسان في التصنيع والتركيب. فإذا ما رغب أحدنا في رؤية زهرة برية، فعليه أن يتحمل مشقة الخروج من العمارة التي يقطنها لمسافة سبعين كيلومترا أو أكثر؛ أما إذا كان يرغب في مشاهدة قنفذ أو أرنب فعليه أن يتوجه إلى محبس الحيوانات.

 إثر كل ذهاب أقوم به لمتحف أو حديقة حيوانات أستنتج بأن قسوة الإنسان لا يحدها شيء. كل هذه الأسود والغزلان والتماسيح والطيور التي أراها الآن؛ كانت تعيش حرة طليقة لملايين السنين، إلى أن جاء هذا الإنسان فطاردها بكل السُبل، وجعل من كل نوع منها إما مصدراً لطعامه، أو مادة لكسوته، أو وسيلة لتسليته هو ونسله. لقد لاحق الإنسان هذه المخلوقات في كل منحنيات الأرض، وما وُجد عرين أو غار أو جحر إلا ووصل إليه. ولمَّا رأى هذا الإنسان بأن ما بقي من هذه المخلوقات يسير نحو الانقراض، وذلك بسبب ما ألحقه بها من أبشع الأنواع قتلاً وتنكيلاً، وضعها في أقفاص كئيبة تتغذى على أطعمة فاسدة ويتفرج عليها الفضوليون ومطاردو وسائل التسلية. أفهم جيداً أن يفترس حيوان ما حيوانا آخر، و لكنني لا أستطيع أن استوعب كيف يمكن لحيوان أن يجعل من حيوان آخر موضوع فرجة أو احتقار أو إذلال!، وهذا بالضبط ما فعله الإنسان بباقي المخلوقات من حوله. ماذا أقول؟!، الإنسان بلا مبالغة هو ديكتاتور الحيوانات.

 لو كان باستطاعتي التحكم في دواليب الكون، لكنت قد مسحت الإنسان من على وجه الأرض. فمنذ البدء أثبت هذا الكائن بأنه لا يحسن إلاَّ الانفصال. لقد أمره إلهه بأن يلزم المكان المخصص له في الجنة، وحذَّره من أنه ثمة حدود لا يجب عليه أن يتجاوزها؛ ولكن الإنسان، وكعادته، يهوى تجاوز الحدود وخرق العهود فأكل من الشجرة المحرمة وكان ذلك أول إنفصال له، إنفصاله عن إلهه. ولكن إنفصالات الإنسان لا تنتهي؛ فها نحن نشهد اليوم وفي كل ساعة وحين انفصاله عن الطبيعة وذلك بسبب ما يلحقه بها من خراب ودمار إلى درجة أنه ارتفعت أصوات تطالب بكتابة عقد طبيعي مع الأرض. الإنسان كائن مرفوض، إنه لا ينفك يُطرد من فردوس تلو الآخر، إنه كائن غير مرغوب فيه.

 الإنسان حيوان يتمحور حول أناه، وعندما يطلق له العنان يتحول العالم إلى ورشة عمل للشيطان. هذا بالضبط ما فعلته أغلب الأنساق الماورائية التي عرفها تاريخنا والتي عملت على تكريس غرور الإنسان و صلافته. وقد كانت المسيحية أول ميتافيزيقا أنذرت نفسها لهذه المهمة حيث عملت على التبشير بأن الإنسان خُلق على صورة الله؛ وبأن هذا الأخير قد تجسد فعلاً، في يوم من الأيام، في صورة إنسان وعاش مع الإنسان ومات من أجل الإنسان. ثم جاءت الحركة الإنسية التي جعلت من الإنسان "مقياس كل شيء." وهكذا توالت الأوهام بين ميتافيزيقا تقول بأن الإنسان طيب في عمقه، وأخرى تقول بأنه خليفة الله في أرضه، وثالثة تقول لك "دعه يعمل، دعه يمر." والحق أنه مهما اختلفت هذه الأنساق الميتافيزيقية في مفاهيمها وزواياها، فإنها تلتقي عند النتيجة نفسها والتي تتمثل في أنها أنزلت الإنسان منزلة لا تتناسب وقدراته؛ بل ويمكنني القول بأن النجاح السياسي والهيمنة التاريخية لهذه الأنساق، بنوعيها أللائكي العلماني والثيولوجي المقدس، لا يعود إلى انسجام في مقولاتها ولا إلى قوة في أيديولوجياتها، ولا حتى إلى فكرة الجحيم أو فكرة الخلاص؛ بل نجاح كل ذلك يعود إلى شيء واحد، وهو أن هذه الأنساق قد تملقت الإنسان ودغدغت ميوله النرجسية وجعلت ذاته شديدة الانتفاخ.

 منذ أن وعى الإنسان وهو لا يطمح إلا لشيء واحد وهو احتلال مركز كل الأشياء. والحق أن كل البشر يتصرفون كما لو أنهم آلهة، فأنى توجهت فتجد آلهة بائسة أو أنبياء مقموعون، فيما هم مجرد حيوانات عليا يقتلون ويتقاتلون على ظهر هذا الكوكب السيء الحظ، والذي غالبا ما ينسون بأنه مجرد كرة معلقة في الفراغ الكوني المطلق. وحده داروين فهم ما يجري؛ لقد رأى في الإنسان مجرد قرد متطور يتربع، الآن، على قمة هرم المخلوقات. ولقد كان بإمكان هذا القرد الأعلى أن يعيش في سلام تام مع نفسه ومع الطبيعة، ولكنه حيوان مصاب بهوس التقدم؛ إنه لا يكاد يصل إلى وضع حضاري حتى تبدأ الرغبة تراوده في تجاوزه إلى وضع حضاري آخر. ومن إرادة التجاوز هذه وُلد الإنسان فتحول بذلك من كائن يعيش في الطبيعة إلى كائن يُنصِّب نفسه سيداً عليها. والحق أنه حيثما تولي وجهك لن ترى إلا هذا الكائن وهو يغزو كل شبر ويكدس الأموال ويستنزف ما يقابله.

 كل ما يصنعه الإنسان لا يلبث أن يرتدَ ضده. إنه لا يستفيد من أشيائه إلا مؤقتاً، أما على المدى البعيد فإن كل ما يخرج من بين يديه يصبح مصدر إزعاج أو خطر. لقد اخترع هذا الكائن السيارة ليختزل المسافات ويسابق الزمن، وها هي هذه السيارة قد أصبحت تشكِّل في مدنه عاملا يعرقل الحركة و مصدراً لشتى أنواع الضوضاء. لا أكاد استوعب كيف أنه بعد كل هذه القرون من الرياضيات العليا والميكانيكا المعقدة انتهى بنا الأمر إلى خلق حضارة مفادها الضجيج والقذارة. ولا اعرف أي تقدم هذا الذي أحرزناه وقد أصبح الواحد منا لا يعبر شارعاً ثانوياً إلا بعد أن تتوتر أعصابه ويتصبب عرقه؟، والحق أنه عندما أرى هذه الأجواء الملبَدة بالدخان وهذه الوحوش الحديدية التي تجوب شوارع مدننا وتدهس، من حين لآخر، بعض الأرواح البريئة، لا أتحسر إلاَّ على شيء واحد كوني لم أُوجد قبل الثورة الصناعية أو لم أُوجد من الأصل.

 مع كل صرخة وليد يزداد الشر قليلاً في العالم. وإذا كان هناك من شيء أتأسف لحاله فهو هذا الكوكب الأزرق الذي يحمل على ظهره هذه التخمة من بني البشر؛ والذين لا يختلفون عن بعضهم البعض إلا بقدر ما يفرز كل واحد منهم من الخراب والكارثة. لقد توصلت إلى قناعة مفادها أنه علينا أن نعمل على تكريس حركة إنسية معكوسة تتمثل في وضع حد لهذا الإنسان وتمريغ كبريائه في التراب. إنه لمن الضروري أن نُفهم هذا الكائن بأنه مجرد ترتيب حيوي في المنظومة الطبيعية للأشياء. وبأنه ملزم-إن أراد الاستمرار-بأن يتخلى عن أخلاق السوبرمان ويتبنى عوضاً عن ذلك، أخلاقاً مغايرة تستمد جوهرها من تواضع حشرات الأرض وعفوية العشب. على هذا الكائن أن يفهم بأنه ليس ابن السماء، بل ابن الأرض. والحق أنه رغم ما قد ينطوي عليه هذا الإذلال، الذي ندعو إليه، من مضاعفات جانبية، فإن مخاطره ستكون أقل بكثير من المخاطر التي قد تنجم عن تمجيد الإنسان أو عبادته؛ فالإنسان حيوان مغرور ومصاب بخيلاء لا علاج لها، على سبيل الطرافة، لفت صديقي نظري إلى التكوين المورفولوجي للحيوانات؛ فكلها تدب على ظهر الأرض إما زاحفة أو ماشية على أربع، حتى الديناصورات رغم ضخامتها وقوتها تبدو منحنية و محتشمة؛ لكن وحده الإنسان يملك وضعاً مورفولوجياً عمودياً، لقد بدأت المأساة لحظة استقامته.

 إذا كانت اليوتوبيا لاتزال تعني لي شيئاً، فإنها تعني أن تستولي قلة من المثقفين على الحكم في هذا العالم، فتؤسس بذلك دكتاتورية شمولية تقوم بالسهر على حماية الطبيعة ولجم اندفاعات الإنسان. والحق أنه أصبح من المُلح علينا، وأكثر من أي وقت مضى، بأن ندمر هذا العجل الذهبي الذي يعبده معاصرونا والذي يتمثل في مجتمع الوفرة، إننا ملزمون بأن نعود إلى قيمنا البدائية، وبأن يتم إرجاع مستويات العيش إلى ما كانت عليه في العصور الوسطى. كما انه من الضروري العمل على تحويل التناسل عند البشر من إمكان طبيعي مفتوح إلى إمتياز حضاري لا يمنح إلا للمتفوقين. فمن يطَّلع على المعدلات الديموغرافية لبني البشر، خاصةً تلك المتعلقة بالبؤساء والأغبياء منهم، لا يمكنه إلا أن يستنتج بأن الإنسان درن ينتشر.



 هذه الصورة ليست من مخيلة أحد مخرجي السينما المتشائمين، لكنها من أحدى مسيرات الإنسان السياسية، الأمر لا يعنيني سياسياَ أكثر منه أخلاقياً، هم يطالبون في مسيرتهم بحقهم في حكم وقيادة مجتمع بأكمله وفي الوقت نفسه يجرّون ورائهم مجموعة من الأطفال لا شيء في عقولهم سوى بعض المشاهد الكرتونية، يسيرون بهم بعد أن البسوهم أكفان وعباءات الموت كشيء رمزي للتضحية بحياتهم من أجل أيديولوجيا طوباوية تسببت قديماً في الخراب أكثر من أي شيء آخر متوهَم. من المفارقات شديدة السخرية أن من ينوي امتلاك دراجة بخارية تافهة يجب عليه الحصول على رخصة لقيادتها بعد اختباره والتأكد من أهليته للقيام بذلك، وهؤلاء السائرون لم يختبر أحد أهليتهم لإنجاب إنسان آخر على وجه الحياة، ولم يحاسبهم أحد أيضاً لتجدجينهم هؤلاء الاطفال ذوو العقول النيئة للمطالبة بأشياء لا يعلمون عنها شيئاً، ليصبح الإنسان مجرد مفرخة للقبح والتشيؤ دون حسيب أو رقيب. فلا سبيل الآن سوى الصراخ مع سيوران: "الولادة هي ما ينبغي بحثه إذا ما أردنا إستئصال الشر من جذوره".

 فيما يعنيني، لا أملك إلا أن أقول بأنني قد أقلعت عن الافتخار بانتمائي للنوع الإنساني؛ ذلك أنني نزلت إلى العمق الأخير لروح هذا الكائن فما وجدت إلا الأنانية والخبث وميول شيطانية أخرى. ولست أبالغ إن قلت بأنه لا يفتخر أحدنا بكونه إنساناً إلا إذا كان ساذجاً أو مثالياً طفولياً، أي إما جاهلاً بطبيعة الإنسان أو إنه لا يريد أن يرى سقوطه المدوي عبر كل الأزمنة والأمكنة. اليوم لم أعد أتعجب إلا لشيء واحد، وهو كيف يتحمل كل واحد منا لمدة سبعين أو ثمانين عاماً كل هذا العبء الذي يسمَّى بالإنسان؟!، ما من معنى آخر للحياة سوى أن ينسحق كل واحد منا، منذ البداية وإلى النهاية، تحت هذا العبء المتمثل في رغبات متضاربة، ومشاعر متوترة تنضوي كلها تحت اسم أو لقب مكلل بالتباهي مسرف في نرجسيته.

 لا شيء ينقص الإنسان المعاصر إلا الوعي بالزمن؛ ذلك أنه لو قام هذا الإنسان بتأمل الامتداد الزمني لمَ قبل وجوده وما بعده، لكان بإمكانه أن يرى حجم العدم الذي يتوارى خلفه أو ينبسط أمامه. وربما كان بإمكانه أيضاً أن يستخلص من ذلك بأن وجوده ليس سوى صرخة خاطفة في فضاء من الزمن الأبدي. ولكن الإنسان، وعبر تاريخه، قلّما تمكن من استبصارات كهذه؛ فلقد اثبت هذا الكائن من خلال تاريخه، وبما لا يدع مجالاً للشك، بأن لديه نزعة للتأله والسيطرة. والحق أنه لو كانت لهذا الكائن صورة واضحة عن الطابع العرَضي لوجوده ومقدار الضرر الذي ينجم عن مشاريعه وأفكاره، لكان قد فقد الكثير من حماسه، و لربما كان قد دفعه ذلك إلى وضع كل أسلحته والتخلي عن كل خططه التافهة.

 بالنسبة لي، لا يكون الإنسان خيِراً إلا إذا أحجم عن كل فعل. بمجرد ما يشرع هذا الكائن في التصرف تبدأ تروس المشاكل في الدوران ويحدث الخراب. إن مشكلة الإنسان مع الوجود تكمن فيما يميزه: حريته. فكل الحيوانات، وباعتبارها كائنات لا تتحرك إلا وفق إملاءات الطبيعة، تعيش في انسجام تام مع وسطها؛ وحده الإنسان يبدو بأن الأوضاع تستعصي عليه، و يبدو أيضاً بأنه يبحث عن نمط حضاري و وجودي لا قِبَلَ للطبيعة به. والحق أن جذور كل مشاكل الإنسان تعود إلى شيء واحد: وهو كون الإنسان كائناً غير متساوق. إنه حيوان حر، أي خليط ضار من الاندفاعات البهيمية و الميول الإلهية.

 من وجهة نظري لا يكون الشيء فعالاَ وذا قيمة إلا بقدر ما يؤدي إلى السعادة. وفي ما يخص الحرية، فهي بالضبط ما يؤدي إلى شقاء الإنسان وبؤسه. فهذا الكائن لم يكن مسالماً إلا في العصور التي كان فيها مثال الحرية مثالاً مغموراً أو شبه منعدم؛ فالحرية إمكان وجودي لا يتلاءم و الاختلالات النفسية للإنسان. إنها هاوية لا قِبَلَ له بها. وإذن من الأفضل له أن يتراجع وأن يكف بقدر ما يستطيع عن النظر إلى نفسه ككائن يعيش لأجل الحرية.

 لذلك اقترح فلسفة اللافعل، ولكن ماذا يعرف معاصرونا عن هذه الفلسفة التي تحثنا على التعلم من الماء، أي أن نذعن لجغرافية الوجود و ننساب بين الأشياء في رقة وهدوء؟!، ومن أين لنا أن نفهم فلسفة كهذه ونحن نعيش في "حضارة" ترتكز كليةً على عبادة الجهد والعمل والديناميكية وتمجيد الحركة والتغيير؟!، وفي الواقع، مهما اختلفت تصوراتنا بخصوص الإنسان، و سواء كنا نؤمن بأنه ملاك ساقط أو قرد تخلَّص للتو من فروته وزغبه، فإن ما هو يقيني وأكيد هو أن هذا الكائن متورط في مغامرة مجهولة العواقب؛ وبأنه عوضاً عن أن يموت -على غرار أسلافه الأولين- موتاً هادئاً على سريره، سيموت في يوم ممزقاً نفسه في حادثة ما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق