الأحد، 30 يونيو 2013

موظف حكومي على مشارف الأربعين

عيش، حرية، كرامة إنسانية. 

 عيش

 لقد جئت إلى هنا، إلى تلك اللحظة، من حيث كان وقت ضائع يكفي لملء الكون بمجراته. هناك؛ في المكان الذي جئت منه، كنا كأننا في سديم فضائي وإشارات المركبات تومض بعشوائية ككلاب عملاقة من معدن تعوي في الفراغ الكوني حيث الصوت لا ينتقل في الفراغ وإن استعنت بكل الأحبال الصوتية لسكان الأرض. كان الكلام منسلخاً عن الواقع مثل الأذان: وكان الواقع نفسه قبيحاً إلى حد العمى عن تفاصيله. لم يكن إلا الأمل في اللحاق بمركبة فضائية تقلك إلى حيث الواقع أقرب شبهاً بالكلام إلى أناس يرتدون ما يتفوهون به.

غير أني كنت قد رحلت فعلاً إلى العالم الآخر في زمن مبكر، وحينها عرفت أن لا مساحة لي هناك إلا دروب الملفوظين من صناديق زبالة العالم. لم يكن وقت ضائع على الإطلاق لكنك أنت ضائع، لا شيء يعنيك حقيقة مهما اصطنعت الاهتمام. من اللطيف أن تكون معظم المصطلحات الحضارية المتداولة؛ تلك الموحية بالخفة والتحرر من تراث الديني والمجتمعي الطويل مجرد ستيكر متداول أنيق يجعل الفرد مقبولا في المجتمع المتحضر ليس إلا، لكن من المستحيل أنْ يكون لهذه الأفكار وجود عميق في حياته وإلا فسيكون التوحد والتماهي المطلق معها مأساة إنسانية ثقيلة، لا تعني إلا المزيد من التكريس للمسوخية والتشيؤ.

 حصلت على الشهادة الجامعية التي وفرت عليّ تمثيلية التعليم العالي في القاهرة، عدت صاغراً، لاهثاً إلى ضرورة وجودي أو إمكان أن أفعل شيئاً له معنى، أي شيء.

 كنت متوحداً بلا سياق، وكان الوقت الفائض عن الحاجة لا يزال. كنت أنا أو ربما ليس أنا، ليس تماماً؛ ربما أصدق قليلاً أو أكثر استعداداً للتواؤم والتكيف. لكن الوقت أمسى ضاغطاً إلى حد صعوبة التنفس. وهكذا تدربت أن أبني سياجاً عازلاً حول نفسي تحاشياً لاسفكسيا عقارب الوقت. التحقت بعمل حكومي منحني دخلاً مريحاً، وأدمنت الحشيش. مع الوقت ظهر ناس يخاطبونني :يا باشا" وانفتحت أبواب الدوائر المسماة بديلة. عشت ضاحكاً وأنا أنا أو ربما لست أنا تماماً. كان على الصراف أن ينتظر إلى أن يفرغ مكتب الصرف ليمرر لي النقود، حتى لا يرى زملاء الأقسام الأخرى كم أتقاضى عن اتقاني.

 كانت هذه إحدى الأفكار الشائعة عن الثورة: أن يستفز تفاوت الدخول مطامع الموظفين، صراع حيواني أصيل. هنا حيث كل الناس موظفون وسقف الطموح هو أن يكون المرتب عالياً؛ لا سؤال عن القيمة النوعية للعمل الذي تتقاضي عنه أجراً. الثورة على الفقر، مع الفقراء، لكن بشرط أن يكونوا موظفين؟! من وقت إلى آخر، كانت تحدث انتفاضات صغيرة داخل المؤسسات لكنها لا طالبت بتغيير ولا أدت إليه. والفقراء ظلوا فقراء وازداد عددهم وإن أصبح الأغنياء أقل وأكثر قبحاً حتى.

 فإلى أن مات أبي بالتزامن مع هجمة ١١ سبتمبر تقريباً فانهارت الجدران التي شيدتها من حولي في وجه الوقت المهدر كدماء لا منتهية تراق على قارعة الطريق، لعلني جربت نوعاً معطلاً من السعادة. أنتجت سياقاً أعمل فيه شيئاً، ما لبث أن تفتت في لحظة، وكان علي أن أعيد بناءه من لا شيء. لكن هذه المرة بلا حشيش، باتت رواسب خوف البوليس المزروع في جسمك من قبل أن تصبح "باشا" وحل فزع الوقت أبشع من فزع الموت نفسه. للمرة الأولى أحسست به داخلك، في جسدك كما على مسرح أحلامك: ضياع الساعات التي انهمرت حولك فجأة شلالاً في كل الاتجاهات؛ وأكد لك أن الثورة وإن حدثت محال أن تتبع أهواء الموظفين.

 حرية

 جئت إلى تلك اللحظة من حيث مات أبي فكففت مجبوراً عن ابتلاع دخان الحشيش. همت فزعاً من الوقت الضائع الذي بات داخلي كما خارجي كأنني مصفاة في مائه، أمارس الغرق ولا أزال لا أختنق وإن تنفست بعرقي. وكم تأسفت حيال ذلك الحوار المضني مع قبح لم يعد عزله او مراوغته ممكنة وأنا، شيئاً فشيئاً، أتخطى الانهيار.

 في هذه السنوات بدأت تتجلى ألوان الوقت المتسرب في تفاصيل العمل والحياة، أو لعل ما تجلى فعلياً كان أسبابه: الحقائق التي تبقيه ضائعاً وتحرمك استعماله في شيء مهما حاولت. عرفت مثلاً أن الغلاف الخارجي للشيء وحده محط الأنظار والاهتمام، وحين يكون المحتوى المفترض قيمة أو مبدأ يزداد الاهتمام بالغلاف. لكن المحتوى يظل فارغاً يماثل الوقت، لا يمكن حتى وصفه بأي صدق تبعاً لشروط التفاعلات المعمول بها، وبحسن نية أحياناً.

 بوضوح أحسست قسوته غير مسبوقة أدركت أن تراتبية طبقية أثرية ربما كانت مقترنة ذات يوم بنبل السلالة لم يشبهها إلا سقوط مريع في جودة سلالم الهرم واستعداد متزايد لانهياره دفعة واحدة. إن مساحة لغير التسول والدعارة (والبلطجة الملحقة بهما طبعاً) لم تتسع لأحد. لقد أصبح الوقت ضائعاً لأنه لم يتجدد منذ الأزل، فكل المطلقات بما فيها غير المعلن منها – كالطبقة – مازالت. وخلاف التأسلم المتفشي كوباء على كل مستويات الحياة لا مجال لتجاوز الوضع القائم إلا ذلك الحشد الصغير المهدد من عموم الناس ربما أكثر حتى مما يهدده "النظام" المتآكل – مثله – في شبكات لامنتهية من الدعارة والتسول يحميها عنف مأجور، وهو يطرح كلاماً قديماً وغير مقنع عن العروبة والفلاحين وفلسطين. ويكرّس أنماطاً من القمع والإقصاء أبشع كثيراً مما تمارسه السلطة السياسية نفسها.

 بامتداد وسط البلد، ذكريات باهتة عن شوارع فُرّغت من المرور وجموع صغيرة من الناس في الميدان؛ امرأة نحيلة بصوت مبحوح تحاول أن تقنع المتظاهرين أن لا يتبعوا صفاً منهم يريد أن يوقف زحف المسيرة عند هذا الحد: لا فائدة. تبدو مضحكة وهي تصرخ إن هؤلاء مدسوسون وهم أعداء نضالنا فلا يخرج من فمها سوى ما يشبه الأزيز.

 كرامة إنسانية

 جئت إلى تلك اللحظة من حيث أيقنت أن النضال، ذلك الخليط المسرف في الارتباك والضبابية من القومية العربية والماركسية والطائفية السنية، لم يعد له شغل سوى التخديم على الدين المسيس أكثر فأكثر كواقع – خرافي، بطولي، رديء، ممسوس بالطبقية والدونية، محكوم بالوقت الضائع – ليس منه فرار. وكان في انحدار جودة الهرم المجتمعي تفسير صعود التدين كاختيار وإن عكس ذلك التسييس فهو عابر لمستوى الدخل والتعليم، على نقيض ما يقال من أن التأسلم فقر وجهل أو نتيجتهما. فالأصولية حل سهل لمعضلة المسئولية عن الوقت الضائع وهي رد فعل موائم لأعراف محافظة إلى حد التعفن. إنها كما لا يكف أحد شباب المنظرين عن الترديد منذ ٢٠١١ حالة "ملحمية"؛ وقد حاولت أن أسأله شخصياً عما يقصد بكلمة "ملحمية" ولم أصل إلى شيء. غير أن ثمة ما يقوله الأصولي لـ"الوسطي: وأفهمه تماماً: أنا أصلح منك في كل شيء؛ لطريقتي في التسول والدعارة غطاء إلهي ليس لطريقتك؛ لإحساسي بالدونية شعوب كاملة مستعدة للموت بل وتفضل الموت على الحياة مثلك بلا انتقام؛ ولثورتي على ما نحن فيه أفق أبعد من أي فرد بل أبعد وأرقى من التاريخ الإنساني نفسه.

 هكذا يتحول رفض الحاصل بلا تصور واقعي عما يجب أن يحصل أو كراهية الآخر كبديل عن كراهية الذات إلى وقت ضائع من نوع جديد. وهكذا يتلاقى "اليسار" القديم نفسه مع الإسلام السياسي، ويتجسد الاثنان في النهاية المقيتة للحظة لعلك أمضيت عمرك السابق عليها كله تنتظرها: لحظة أصبح النضال تضحية حقيقية بالجسد عبر التظاهر بأعداد مقنعة لا من أجل أحداث بعيدة عن مصر ولا خرافات ضد التاريخ ولا من أجل دخل أعلى بلا عمل حقيقي في الوظيفة الحكومية ولكن من أجل أن يكون الفرد إنساناً له الحق في التعبير عن النفس، في الرقاد على الأسفلت والغناء، في "الكفر" قبل أن يكون في "الخروج على الحاكم"، وفي ممارسة حياة يريدها بلا حاجة إلى طريق إليها يمر عبر أي ملحمة كانت؛ لحظة أصبح الفرد قادراً على الخيال.

 وقف أحدهم زاعقاً: الثورة لم تكن في ٢٥ يناير. وفي انتظار ٣٠ يونيو كأمل واه في إصلاح بعض ما فسد خلال العامين الماضيين – في العودة إلى نقطة الصفر بمعونة المؤسسة العسكرية إن أمكن – عدت تنصت، للمرة الأولى منذ وعيت الحياة، لعواء الكلاب المعدنية. عدت ترى وقتاً ضائعاً يكفي لملء الكون، وفي السديم الفضائي المحيط بك مع خطر الموت الآن تتطلع إلى إشارات المركبات الفضائية.

 إلى أين تذهب يا رفيقي وقد صرت على مشارف الأربعين؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق