الأربعاء، 6 سبتمبر 2017

المخلص المنتظر






جاءت الجموع لتطلبه واحتشدت في أسفل الوادي: رقعٌ من الأنفاس المتلاحقة تطيّر ثوب الأرض الساكن، الأرض التي لم تعد تكترث بشقائهم، والتي لم تتحمل مشقة إطعامهم منذ زمن بعيد. بدت وجوههم من شدة نحولها أقنعة هشة مرقعة مزقها الجوع، ليكشف عما تحتها من وجه وحيد، وجهٌ يتقاسمون مرارته فيما بينهم، وكأنهم مرايا مجلوة -بأحجام مختلفة- يحدِّق فيها الجوع مستمرئاً ضحكته الدميمة.

 -مخلصنا، نحن جوعى. أبانا، أطفالك يهوون إلى جوف الأرض ويتساقطون إلى السفح بجنون، وليس لهم ما يتحصنون به سوى محرابك.

 منتصباً على القمة، خافضاً رأسه الحاسر، لم يُجبهم المخلص بشيء.

 -مخلصنا، فيما مضى كنّا نخشى الظلام، إذ كل حبل في الظلمة أفعى، والآن نتلهف مجيء الليلِ لنلاحق تلك الأفاعي التي نتوهمها، نتهافت عليها، نمسك بها، ونعتصرها في أفواهنا المتشققة، وحين تشرق الشمس الملعونة، نعرف أن تلك الأفاعي ليست فقط محض خيال، بل مشانق تنتظر صرختنا الأخيرة لتحكم قبضتها على أعناقنا.

  لم يُغيِّر المخلص من وقفته، ربما انحنى ظهره قليلاً، ربما لامس ذقنه صدره، ربما عبثت الريح بشعره الداكن، ولكن من المؤكد أنه لم ينطق بكلمة.

 -مخلصنا، كيف يمكنك أن تقسو هكذا؟! ألا ترانا؟! ألا تصغ إلى صوت الغربان التي تكاثفت سُحبها فوق رؤوسنا؟! ألا تستنشق رائحة الحريق الذي يلتهم أشجارنا الجرداء ولا يُبقي على شيء منها سوى الذئاب الكامنة خلفها؟! مخلصنا، فلتفعل شيئاً، لا تصلب ذراعيك هكذا، لا تخفض رأسك، ارفعه عالياً، دعنا نشاهدك تبذر كلماتك ثماراً ولحماً"،  لم يزل المخلص صامتاً. "باركنا، لقد خارت قوانا، وأرواحنا تكبلها أصفاد الوهن. باركنا، ولكن لتكن بركتك رغيفاً من الخبز. لا تتركنا هكذا، ارفع وجهك، على الأقل أرنا أنه ليس كوجوهنا، لا تدعنا نشك بأنك مثلنا جائع.

 فجأة تكلم المخلص، كانت كلماته -وهي تتشنج بين الشفتين- أشبه بصمت يتململ وقد عاوده كابوس ما، كانت نبرة صوته هزيلة، نبرة لا تصلح للإتيان بمعجزة، بل تليق بمتسول يستجدي ما يسد به رمقه.

 -لقد أخبرتكم من قبل.

 تدانت الجموع، حتى غدت درعاً متماسكاً، كأن الكلمات الهزيلة التي سمعوها كانت منجلاً عظيماً يستعد لحصد رؤسهم. التمعت أعينهم وكأنها تعكس بريق النصل المتأرجح فوقهم، تبادلوا النظرات، ثم رفعوا رؤسهم وصرخوا. 


-بم أخبرتنا؟! هل يُعقل هذا؟! هل يُعقل أننا قد تبعنا طوال الدهرِ بهلواناً، مهرجاً، لصاً استولى على أثمن ما نملك مقابل كلمات مهترئة أصابها العفن. لقد ظنناك قائداً -رُباناً- لسفينتنا، والآن، أيها السيد الربان، خدامك جوعى؛ وبدلاً من أن تمنحنا سمكة، منحتنا صمتاً. انتظرنا أن تعلمنا الصيد؛ وبدلاً من أن تهبنا شبكةً، وهبتنا مزيداً من الصمت. انتظرنا أن تجترح معجزة؛ وبدلاً من المعجزة، أخبرتنا بأن الجوع فضيلة يتوجب علينا نشده. وها قد أتخمنا الجوع، ماذا ننتظر بعد؟! ليس أمامك سوى أن تخبرنا بأن الموت هو الشبع الحقيقي. إذاً فلتكن أنت أول من يشبع.


 ينقض عليه الجمع، أمواج من الصخب المهتاج، تختمها صيحة إنتصار. لقد تدبروا أمراً ما ابتغوه: لقد نحروا مخلصهم المزعوم. ها هم وقد تحلقوا حول بركة الدماء، محملقين في الرأس المقطوع، بعدما خمدت جذوة سعارهم، لم يتفرقوا، كان هنالك، في أغوار قلوبهم اليابسة، أمل ما يخفق، كأنهم ينتظرون من الرأس أن تحلق عالياً، لتلعنهم، لتخبرهم بأنهم قد ارتكبوا –للتو- أشنع الكبائر، لكن تمر الساعات ولا يحدث شيء، ولن يحدث شيء!