الخميس، 18 يوليو 2013

معضلة السعادة

من بين كل الأشخاص الذين عرفتهم في حياتي، لم يؤثر في إلا واحد منهم. لقد كان سلوكه وتصرفاته ونظرته إلى الأشياء تعطي الانطباع كما لو انه جاء من كوكب آخر. إذا كان الناس في أعمالهم ونشاطاتهم يجرون دائماً ضد عقارب الساعة ويسابقون الزمن، فهو لا يتحرك نحو أية وجهة يقصدها، إن كانت وجهته نحو عمل شاق أو نحو مأدبة، إلا بإيقاع سلحفاتي. بالنسبة له، لا شيء يستحق أن نتصبَّب عرقاً من اجله؛ فكل سر الحياة يكمن في التحرك ببطء. في الحقيقة، لم يكن يجمعه ببني البشر إلا هيئته الآدمية وسترة من جلد ولحم، أما تصرفاته فكانت أقرب إلى المخلوقات الأخرى منه إلى شيء آخر. مع البومة كان يجمعه عشق التجول ليلا، ومع الكوالا ساعات النوم الطويلة، أما مع القنفذ في التقوقع على الذات.

 الماضي، الحاضر، المستقبل؛ مجرد مفردات في نظره تنتمي إلى علم الصرف والكلام ولا تمس الوجود في أي شيء. السعادة ، بالنسبة له، مشكلة بسيطة وحلها يكمن في عدم التفكير في الغد. العمل لا يجب أن يكون لأجل هدف آخر غير تحصيل الحاجات الأساسية، أما الرفاهية فهي التمكن من شراء علبة سجائر وشرب فنجان من القهوة في مقهى عام. عندما كنا نتسامر ليلا، كان يحلل ويفكك مقومات الحياة من ألفها إلى يائها، لا شيء كان يصمد أمام مزاجه الكلبي وبصره الثاقب. كان يعري كل شخصية اجتماعية، من أصغر بواب إلى أكبر موظف حكومي. عندما يبدأ في الكشف عن الجوانب المضحكة في شخص أو ظاهرة ما، كان لا يضحك أبدا؛ فلا شيء بالنسبة له مدهش بخصوص الحياة، فهي غير جدّية من بدايتها إلى نهايتها.

 من خلال معايشتي لحواراته وملاحظاته، علمت بأن الفلسفة الحقيقية تمشي على الأرصفة و تتردد على المقاهي والأمكنة المهمشة؛ بل إنني علمت منه أيضاً بأن الفيلسوف الحقيقي لا يملك بالضرورة أطروحة ميتافيزيقية أو كرسياً جامعياً. الموقف الميتافيزيقي الحق لا يكمن، حسب تصوره، في السير وراء هذا النبي أو ذاك، بل فقط، وببساطة تامة، في تقليد بعض الزواحف، فقط الالتفاف حول الذات.

 متى تتحقق السعادة؟!
 -عندما نقتنع بأنه لا شيء جدير بالضمانة في هذه الحياة؛ وبأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تعطي دائماً أكثر مما هو ممكن. لقد سلك البشر كل الطرق التي اعتقدوا بأنها تؤدي إلى السعادة، فانتشروا في مناكب الأرض بحثاً عن المال أو المجد أو المتعة؛ لكن بعد أن تم لهم ما كانوا يرغبون فيه، غرقوا في الضجر وعدم الرضا. يقول إبكتاتوس: "السعادة لا تكمن في المكسب والتمتع، بل في كبح جماح الرغبة". وفي الواقع، بقدر ما يرغب المرء ويتمنى وينتظر، بقدر ما تبقى السعادة خارج متناوله. افتح أي كتاب في الثيولوجيا أو الحكمة أو الأخلاق، وسترى بأنه لا يقترح عليك بخصوص مسألة تحصيل السعادة، إلا وصفة واحدة وبسيطة: الإذعان. " تقبل تقلبات وانهيارات الدهر بقلب مفتوح وبصدر رحب، وسترى كيف ستنال سكينة الروح وراحة البال".

يتم القذف بنا إلى حياة دون أي خيارات لنا أو سؤالنا إن كنا نرغب في ذلك أم لا. في يوم ما يفتح المرء عينيه فيجد نفسه بأنه ابن إسكافي أو وزير، وبأنه ملزم بأن يعيش على هذه الطريقة أو تلك؛ وقد يدفع الطموح وعدم الرضا المرء إلى التمرد على هذا الوضع الاجتماعي أو ذاك؛ ولكن عندما يتأمل في أحوال العالم جيداً ويراقب عن كثب تعسفات القدر، سيتبين له، و على نحو واضح، بأنه لا شيء يستحق أن نحزن أو نتمرد لأجله؛ ذلك أن هذا العالم ليس سوى مسرحية كبرى حيث كل واحد منا مجرد ممثل وكل سيرة ذاتية مجرد دور.

 السعادة كلمة مشبعة بالتناقض، وإن كانت ممكنة في هذه الحياة فإنها لا تتجلى إلا على شكل شعور نوستالجي، إنها مثل الصحة، لا نستشعر أهميتها إلا بعد أن نكون قد فقدناها. لهذا، تجد الواحد منا يستعمل دائماً في حديثه عن سعادته صيغة الماضي وليس أبداً صيغة المضارع. إنها تكون دائماً وراءنا؛ مما يعني أنها تكون دائماً خارج متناولنا. رغم كل البريق الذي يتمتع به مفهوم السعادة في الأدبيات الفلسفية، إلا أن روح الانسان لها من الحظوظ لكي تنجو عن طريق البؤس أكثر منه عن طريق الرفاهية والازدهار. فليس هناك ما هو أشد خطرا على الإنسان من العيش في رغدٍ دائم. المرض والأرق والقلق بشأن المستقبل المادي؛ كلها مظاهر للبؤس توقظ الروح و تدفع المرء إلى طرح الأسئلة ومعاينة أكبر القضايا الماورائية وما ورائها. و من هذا المنطلق، نجد بأنه ليس هناك فرق جوهري بين الانطلاق في رحلة بحثاً عن جنيه والانطلاق في أخرى بحثاً عن الله.

 إذا كان لدينا بعض الأفكار العميقة حول الله والحب والموت، فإننا مدينون بها إلى الطابع الدرامي للحياة؛ فلولا الجراح والتمزقات التي يلحقها الزمن بأنفسنا وأرواحنا، لكنا قد متنا من الضجر والبلادة. ولا غرابة في الأمر، فالإنسان يكون عميقاً وهو يعيش تحت سقف كوخ أكثر منه وهو يعيش تحت سقف أحد القصور.

 Evening on Karl John street by Munch


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق