الخميس، 16 مايو 2013

متلازمة العودة



لدي صديق لطيف، رجل مصري يعيش في آيرلندا مع زوجته وأولاده الذين لا يتحدثون العربية. حياته مكتملة ولا شيء ينقصها تقريبا، حياة مثالية، مثالية الى درجة الروتين. وبسبب حياته المملة في الجنة فهو يجلس طوال اليوم على تويتر والمدونات وفيسبوك، يشغل نفسه بمصر والمصريين، يتحدث عن الثورة، عن الاخوان والسلفيين، والدين، والعلمانية ..إلخ. يتابع الأخبار العربية المصرية والخليجية بأكثر مما يفعل العرب والمصريون. كنت اسأله دوماً باستغراب: لماذا تفعل ذلك؟!، ما قيمة هؤلاء العائشين على الهامش في العالم الحقيقي أو في عالمك؟! لماذا سيندروم العودة، ولو على الڤرتشوال وورلد؟ أنا معجب به، لأنه انتشل نفسه بالدراسة والعمل والزواج وانجاب الأبناء من بركة الوحل المسماة بالعالم العربي، فلماذا يصرّ على العودة؟ كنت أسأله بانزعاج حقيقي وضيق لماذا يختلق كل هذه الصراعات التافهة حوله؟! ما قيمة هؤلاء الرعاع الذين يتابعونه ويشتمونه ويمتدحونه على تويتر؟ إنهم هوام لا وزن لهم في هذا العالم الفسيح. لاشيء عندهم يمنحوه للعالم، دنياهم كلامٌ في الهواء، فقال إنه يتصرف بنوع من الضمير، لديه أفكار معينة، علمانية وليبرالية وديمقراطية، يريد أن ينقلها للناس في العالم الثالث كي “ينتشلهم من الظلام”! أسفتُ على هذا الطبع الأوروپي المثالي، هذه العقلية اليسوعية، الطبع الذي يدفع من يعيشون حياة مثالية في أوروپا إلى السفر لأفريقيا في قوافل الإغاثة الإنسانية، حيث يموتون ميتة تافهة في الأحراش بلا معنى بالأوبئة ورصاصات المليشيات المسلحة.

 صديقي هذا ليس وحده. هناك عشرات الآلاف من المصريين والعرب المهاجرين يجلسون طوال اليوم على تويتر وفيسبوك يتحدثون عن الوطن وهمومه، يحلمون بانصلاح الحال، يحركهم الحنين إلى الماضي، يفتقدون أشياء كثيرة، أشياء تافهة وحتى قذرة، لأنها تنتمي إلى قطعة الأرض المسماة بالوطن. كلهم خرجوا مضطرين، خرجوا مجروحين، يطاردهم الفشل المالي والأكاديمي والقهر الأمني والاضطهاد الديني والحصار الاجتماعي والجنساني والمنع والمصادرة والترهيب، كلهم خرجوا ناقمين، لكنهم لم يخرجوا أسوياء، بل شائهين مختلين. مثل محب ضعيف الشخصية مطعون في كرامته، يعبث به محبوبه ويتلاعب به، يلقيه حين يشاء ويستعيده وقت يشاء ثم يرميه مجدداً، حبه يعجزه عن بتر هذه العلاقة المريضة، باقٍ على المحبة، غير قادر على إغلاق قلبه، يترك دائماً باباً صغيراً موارباً في القلب ليعود المحبوب السادي منه كل مرّة ليعيث فساداً وتقطيعاً، ثم يخرج. يفتشون عن رفقاء الوطن في الغربة، يحتمون ببعضهم البعض كالفئران المذعورة، يبحثون عن مصر في أكلة أو غنوة، في حساب على تويتر، في صورة على فيسبوك. كل من سافروا ناقمين وحققوا إنجازاً ما، تركوا هذا الباب الموارب في القلب، ليعود منه الوطن من جديد، ليبعث كالعنقاء من الرماد، يصحو ويتمطى ويتثاءب ويعوي وينفث السُّم والمرض والجراد والضفادع والشر من جديد. صدقني يا صديقي، أنا لا أفهم لماذا عاد البرادعي بعد كل هذه العقود الطويلة من ڤيينا، بعد المنصب الدولي المحترم ونوبل والتكريم والحياة النظيفة الناجحة المسالمة ليصبح كعم "شكشك"، مسخاً فرانكستاني الملامح وضيفاً هو وابنته الجميلة على محطات المسخرة والحقارة؟! لماذا عاد زويل من أرقى جامعة في العالم متمسكاً بقطعة الأرض الضيقة هذه التي لا يحتاج إليها لا هو ولا مصر فيقحم نفسه في معركة صغيرة دنيئة جعلته مهاناً موصوماً باللصوصية مضغة في الأفواه؟! لماذا عاد فاروق الباز بمشروع ممر التنمية كي يقلب عليه الصحفيين الاشتراكيين الأوساخ وأحقاد زملاء الجامعة القدامى فيلطخونه باتهامات العمالة والنصب والفساد؟! لماذا جاء سير مجدي يعقوب ليفتتح مركز القلب بأسوان فتطارده قضايا تجارة القلوب ونقل الأعضاء؟! لماذا عادوا ولا أحد يريدهم، والجميع يمقتونهم لشهرتهم وثرائهم ونجاحهم؟! لقد عادوا لا ليخدموا الوطن، حتى ولو كان هذا هو السبب المُعلن. لقد رجعوا لأنهم بحاجة إلى تتمة. خرجوا لا يحملون إلا حقيبة ملابسهم موجوعين ينزفون هزيمة ويريدون أن يعودوا فرساناً مكللين بالغار، لم يغفروا الركلة التي كانت قاصمة للظهر، يتحسسون في وجوههم محل اللطمة. كلهم إما هربوا من الحصار أو انطردوا محمّلين بالشتائم واللعنات، آلاف الأكاديميين الأطباء والمهندسين والمبدعين هربوا من الجامعات بعد معركة طويلة مع أساتذتهم الحقودين، پروفيسيرات تحطيم العقلية والشخصية والمستقبل والسمعة والكيان، آلاف من أبناء الأسر التي صودرت أموالها فهاجروا ليصنعوا حياتهم من جديد، وآلاف من البسطاء هربوا من الفقر ونحتوا الصخر وتحولوا إلى مليونيرات، مئات الآلاف من اليهود والمسيحيين والبهائيين والملحدين والمثليين، كلهم خرجوا ممرورين تعشش الكآبة والنقمة على الوطن في صدورهم. سافروا، أقسموا إن نجحوا لن يعودوا. معركتهم لم تكن مع النظام، وإنما مع السيستم، التركيبة الاجتماعية والاقتصادية كلها كريهة.

   لكن العقود تتالت ومرت، ونجحوا نجاحاً عظيماً، تقلدوا فيه نياشين الآدمية والكرامة، وعادوا، كأن الوطن داء في نفوسهم وأبدانهم مكين، عادوا يأكلهم الحنين، وقد أمدهم الاطمئنان إلى ذواتهم الجديدة بالغفلة والاسترخاء، عادوا، يتشممون رائحة المجاري ويملأون صدورهم بالتراب، عادوا إلى قوانين الحسبة والتكفير وقذارة مخبر الپوليس، والبناء الاجتماعي الخانق الذي يصنعه العساكر والبطاركة والشيوخ، عادوا، لتطاردهم صحافة الفضائح والضرائب والاشتراكية ونميمة المعارف والحقد الطبقي، عادوا إلى الشرب من نهر النيل، ليستحموا في الطين، عادوا إلى البلهارسيا والإنكلستوما والدوسنتاريا، إلى هواء القاهرة الملوث بالعادم والكربون والرصاص، والأغيار والمتشردين والمتسولين وسكان العشوائيات، إلى الأكاذيب في الصحف والفضائيات، والأعمال الفنية الفقيرة الجوفاء، من سينما ومسرح ورواية، إلى حيث يتحكم موظف الحكومة البيروقراطي الحقير في عالمك من أوله لآخره، ويقرر مصيرك كاهن جاهل شيخاً كان أو قسيساً يتلقى الأوامر والتعاليم من شبح السماء، عادوا وفي قلوبهم مرض، اسمه الوطن، لأنهم بحاجة إلى تتمة، إلى مصالحة نهائية مع ماضٍ حي كالجرح المفتوح، إلى انتزاع اعتراف ما بالجدارة من قِبل هؤلاء الذين ظلموهم وأخرجوهم مطرودين. هذا الداء، داء "الاحتياج إلى تتمة" هو ما يقضي على كل ما حققوه في "الغربة"، الغربة التي هي وطنهم الحقيقي، داء يحيل بشراً عظماء خارقي الإنجاز في عين العالم الغربي إلى مسوخ جروتسيكية في أوطانهم. لاشيء ينتظرك في العالم العربي إلا التهكم والتدمير والحقارة والتنمر، إلا الاتساخ بالطين، لأن أهل وطنك أوساخ غارقين في الوحل يبحثون عمّن يرفل في الجمال والنظافة والسعادة ليجذبوه إلى الوحل معهم. ثق أيها الپيوريتاني العائد من الشمال، يا من تبحث عن تتمة، عن إجابة لتساؤلاتك المرة، عن انتزاع اعتراف شافٍ بالقيمة والجدارة، عن خياطة لجرحك المفتوح، أن قُرح الفراش السامة إن تمكنت من عضو، لا علاج لها إلا البتر.

الخميس، 9 مايو 2013

تحليق منخفض







في الحديقة العامة تحت شجرة كبيرة يجلس كعادته ليحدّق في أوجه العابرين وملابسهم وأحذيتهم، ومن ثمّ يتنقل بنظره إلى أسراب العصافير التي تحط حوله تارة وتحوم مبتعدة عنه تارة أخرى، وبعد أن يخلو الطريق المقابل لمقعده من العابرين وتحلّق أسراب العصافير كلها فجأة، ينتهزُ الفرصة ليعود إلى صفحة الكتاب التي توقف عندها ليلة البارحة، يقرأ سطراً أو سطرين على عجل، ومن ثم يعود مجدداً ويحدّق في أحد العابرين أو ليلتفت إلى أحدهم وقد جاء ليجلس على مقعد من المقاعدِ التي تجاوره.

اعتاد على المجيء إلى هنا كل صباح يوم جمعة، وأصبح عنده من الخبرة ما يكفي ليميز أياً من هؤلاء الجالسين على المقاعد التي تجاور مقعده ينتظر أحداً ما، وأيّهم جاء ليجلس وحدهُ هارباً من أحد ما، لكنه كثيراً ما يحار في أمر هؤلاء الذين يجلسون وحدهم بصمت فاضح وبعينين حزينتين وجسد منهك وهزيل، ويحار في أمر أنفاسهم الموحشة التي تتسلل إلى مسمعه وتجبره بشدة على أن يلتفت إليهم مراراً، وفي كل مرة يحار فيها في أمر أحدٍ من هؤلاء تراوده أفكار في أن يقوم إليه ليجلس إلى جانبه ومن ثمّ يخبره بأنه ليس الوحيد الذي يشعر في الوحدة، وأن الوحدة تافهة هلامية لا وجود لها إذا ما أيقن بأن هناك حتماً من هو وحيدٌ مثله في هذا العالم، وحتى لو كان بعيداً عنه، فهو يشاركه عبءَ هذه الوحدة القاتلة. لكنّه سرعان ما كان يدفن أفكاره جانباً ، ويعود – وحده-ليحدّق في أوجه المارة القاسية وأسراب العصافير الهاربة.

الثلاثاء، 7 مايو 2013

تبادل أدوار






سقطت من عينيها لآلئ الدموع وراحت تنظر لي بدفء، شعرت أننى لا أستقبله بل أستدعيه، هذا المشهد كله يبدو كذكرى دافئة تبعث ألماً خفيفاً.  تجلس مستلقية على فراشها تختبىء تحت الأغطية كقطة، تتحدث عما يجرى وما قد جرى، وأنا جالس على الكرسي المقابل أشعر بطعنة كلما سمعتها تقول شيئاً مألوفاً، أرتجف، فأنا أشعر ببرد دائم، وتراقبنى هى ويرتسم على وجهها تعبير يدل على قلة الحيلة، أشعر بجسمى متصلباً فى البداية ثم ما يلبث أن يلين تدريجياً وأنا أسمعها وهى تستدعى أيام "شم النسيم" عندما كان الجميع يلتف حول الراديو فى انتظار أغنية "حليم" الجديدة، وتعقب: " لقد كانت أياماً دافئة "، ابتسم فتبتسم و قد لان وجهانا، أقل لها: " تحدثى بصوت أعلى حتى أتأكد أنى لست وحدى"، أبدو كعجوز فى السبعين من عمره بينما يتناقص عمرها تدريجياً كلما استطردت فى الحديث عن الأمس أنا أيضاَ أشعر برغبة فى الحديث عن الأمس، ولكن للأسف لم يبق منه سوى صور مشوهة، نهايات أفسدت تفاصيل أحببتها ووجوه لم أعد أعرفها، أقل لها: " تحدثى بصوت أعلى كى لا أتلاشى"، تقل لى: "بعض من الألوان ستجعلك أفضل"، أنظر فى المراّه فألاحظ أننى صرت لا أرتدى سوى اللون الرمادى، وصرت أعانى من صداعاً نصفياً مميتاً لا أعرف له لوناً، أقل لها : " تحدثى بصوت أعلى حتى أجد سبباً للامتنان"، أنا.. أنا أخاف من أبُث شكواى إلى الله ، أنا أخاف من الله و كنتُ يوماً أحبه أكثر، أخشى أن تترد هذه الأفكار كثيراً فى رأسى ، أنا أشعر بالهزيمة، فأقل لها: "تحدثى بصوت أعلى حتى لا يأتى الغد خالياً مني". 

الخميس، 2 مايو 2013

ماذا يخطر في بالك ؟!






 سألني أحدهم مرة، كيف يكون الزحام فارغاً هكذا ؟! 
فأجبته: ربما لأن لا أحد ينتبه إليك، ولهذا السبب وُجد فيسبوك.


مواقع التواصل الاجتماعي وفيسبوك خاصةً يمنحك شعوراً زائفاً بالنجومية ويضفي عليك أهمية ويجعلك تتعامل مع نفسك كـ "سوبر ستار" والباقون هم جمهورك المهووس الذي ينتظر حضورك بشغف ونهم.



لحظة دخولك على الموقع وحينما تلمح مربع "ماذا يخر في بالك ؟!" الأبيض، تجتاحك رغبة عارمة بأنه ينبغي أن تكتب شيئاً ما هنا، شيئاً يدل على مدى ثقافتك العالية في الفلسفة و الفنون، كم أنت واعي حاضر الذهن متابع للأحداث الجارية، كم أنت خفيف الظل ساخر تميت جمهورك ضحكاً، كم أنت حكيم تتمثّل أقوال السابقين من الفلاسفة، شيئاً يدل على ذوقك الموسيقي الرفيع، وتذوقك لفن السينما والأفلام،هنا تسرّب شائعات و أخباراً مُشينة عن أعدائك، تطلق التصريحات شديدة اللعنة بشأن انتصارك في معاركك الشخصية والعامة. نعم ينبغي أن تكتب شيئاً ما في هذا المربّع الأبيض الصغير، كفراش أبيض لغانية تتهيأ لاستقبال زائر ليل، ثم تنتظر الزوّار. 



ها أنا دخلت لعالمي بالغ الاصطناع، نعم؛ سأعتصر مخي كثيراً لكن ينبغي أن أبدو أكثر عفوية وطبيعياً تلقائياً. ينبغي أن أعلن كم أنا سعيد، غارق في الحب و البهجة، راضيا رضاء الزاهدين عن حياتي، و لكن مهلاً! لا ينبغي أن يستمر هذا طويلاً، أحياناً ينبغي أن أبدو غامضاً مثيراً للاهتمام، أن أقذف بالرموز التي تجعل الجميع يتساءلون ماذا تقصد، ينبغي أحياناً أن أكون مُربكاً ومُحيّراً، لا بأس من أن أبدو من وقت لآخر مكتئباً قليلاً لأعرف من سيهتم حقاً أن يسأل عمّا بي، فأتبيّن الأصدقاء الجديرين بالتواصل الإنساني. من وقت لآخر سأدلي بدلوي في البيولوجيا الجزئية وعلم النفس والاجتماع، في نظريات الانفجار العظيم والأكوان المتوازية، في فنون الرينيسانس وما بعد الحداثة، سأحاكم الحكومة والامبريالية ولا سيما البرجوازية ولا ضرر أن ألعق الاشتراكية واتحدث دوما عن الفقراء وملح الأرض، و أسبّ الرئيس ومن يرؤسه الرئيس ، سأشنق من لا يروق لي، ثم أعلن كم أحب الوطن وأمرره في "ستاتس" منمقة يزفها السلام الجمهوري، وقبل أن أفعل كل هذا ينبغي أن أبدو جذاباً، فأنا فنان واعد لديه تلامذة وحواريين، مريدين  وأتباع، هؤلاء الذين يحملون جماجم نيّئة فوق أكتافهم، ينبغي أن أستغلّهم على ما أشعره نحوهم من احتقار مطلق، ينبغي أن أستفيد بوجودهم لأبدو أكثر شعبية، لا مانع من أن أستغلّهم ببراءة لإثارة غيرة البعض، ثم أعود وأبدو أبيّاً رافضاً متواضعاً لأحافظ على آخر قشة تربطني بالفضيلة كما يعرفونها، و لو بالادعاء، أحد الأشخاص ينازعني ببراعة في هذا الشأن، لا ينفك عن نشر رسائل الاستغاثة، وهو جالس على كرسي يتجرع المزيد من الكافيين كي يبقى حاضر الذهن ويؤدي دوره على مسرح التواصل بإتقان!، يوم انزلقت قدمي نحو واقع عبثي وكان هو من أول من مر على عنقي وتجاهلني كذبابة صيف تثير ازعاجه، لم احتاجه ولم اطلب ذلك، ربما أردت أن يكتبني، أن يمرر اسمي ضمن نداءات استغاثته، ربما.

  المظهر هو كل شيء هو ما يهم، ، ينبغي أن أبدأ في رسم صورتي، أن أعمل على تكوين صورة ذهنيّة لي في رؤوس الناس، لهذا أضع كل هذه الصور السعيدة الطافحة بالبهجة الموحية بالإبداع، والمبهمة في معظم الأحيان، إذا كنت إحداهن وفي مجتمع عنصري ضد النساء ينبغي أن أحمي نفسي، أن أبتذل نوعاً من الشخصية الرّجالية، ينبغي أن أبدو ذكوري المظهر، ذكوري الفكر والتوجه، ذكورية الطابع، نعم. ينبغي أن أخفي جيداً كم أنا قبيح ومتآكل من الداخل والخارج، و الأهم؛ ينبغي أن أسخر من آلام الناس كي أشعر بشعور طيب نحو آلامي، لا أريد أن أتعذب وحدي، هذا ليس عدلاً، ينبغي أن أهدم هذه الأسطورة الذاتية، هذا الجميل البارد كنمثال في متحف الشمع، المتلفّع في ثوبه الثمين الأبيض العاري، أصبح وجود ذلك المربع المجرّد يثير غيظي، أراه يقف بابتسامته الناعمة في ثقة، فيتفجّر حنقي، قطعة لحم بيضاء شهيّة يسيل لعابي لتمزيقها إرباً، كعكة تفاح جاهزة للقضم، أعوي كذئب بري جائع اهتاجت معدته برائحة الدم الذي يسيل من جروح أظافر قدمي فريستها الحمراء، وسأدعو رفاقي بكل كرم إلى الوليمة. في هذا المربع الأبيض الصّغير أحيا و أموت، أحب و أكره، أحارب و أنتصر، دائماً أنتصر، لأنني سيّد اللعبة، يستحيل أن أنهزم، فأنا من أدير كل شيء. 

 ينبغي أن أكتب شيئاً ما هنا، أي شيء، ينبغي أن أكتب شيئاً في هذا المربّع الأبيض الصغير، كفراش أبيض لغانية تتهيأ لاستقبال زائر ليل، ثم أنتظر الزوّار، و الزائرات. أنا محموم، محموم، محموم.

.In Relationship

 قبل التحام فيسبوك بحياة كل منا، كان من النادر أن تجد اثنان يعلنان ارتباطهما هكذا بالصور على الملأ، بل أن تعلن فتاة أنها مرتبطة من الأصل حتى ولو لم تقل بمَنْ. اليوم أصبح  الأمر اعتيادياً، ولكنه يحمل الكثير من الآثار الجانبية للحياة الاجتماعية المتزمتة شديدة الانغلاق في مجتمعنا والتي لا تخلو من داء النميمة. فما إن تنتهي العلاقة، حتى يبدأ الجميع في التحدث عن الطرفين بطريقة مشينة، و يهنيء أصدقاء كل طرف بخلاصه من الطرف الآخر، كنوع من التضامن المعنوي مع الصديق أو الصديقة. آخرون يضعون صورهم معاً في حالة عناق، أو متماسكي الأيدي. هذا شيء يبدو صحياً وجميل، أن تخرج العلاقات العاطفية في مجتمعاتنا المتخلفة الظلاميّة المكبوتة من الظلام إلى النور، لكنه يحمل على الجانب الآخر مظهراً من مظاهر عدم النضج، فكلا الطرفين يتسرعان بتخيّل أنهما سيكونان أسعد زوجين بعد بضعة أشهر من بدء العلاقة. التبادل العلني العارم للعواطف يجعلها مهترئة كالعملة الورقية من فرط ما تداولتها الأيدي، هذا الابتذال المميت أصبح مثيرا للسخرية، فالحب كما الحياة، كلاهما ليس درامياً إلى هذا الحد. تجد الشاب يومياً على صفحة صديقته يجلس مترصدا و مترقباً يكتب لها تحت كل حرف تعليقاً، ليثبت وجوده في حياتها بكل الطرق الممكنة أمام جميع من يعرفونها وأمام نفسه، كما الكلب يحدد منطقته برشرشات البول المتفرقة المتتالية في أكثر من موضع حتى تشم الحيوانات الأخرى رائحة سيطرته على منطقته، فلا تقترب. أسلوب بدائي نصف حيواني. آمنت بعمق أن العلنية و التباهي المبالغ فيهما جزء من تصرفات المراهقين عاطفيا والمفلسين اجتماعيا الذين لا يمتلكون أدوات العطاء الحقيقي للشريكة، و أن الصياح والزيطة والجلبة هي عزاء من لا خبرة لديهم بالحياة، وحياة من لا حياة لهم، فيملأون فراغ حياتهم المُطبق معدوم الفعل بهلوسات الظهور، بلا أي امتداد واقعي في الحياة الحقيقية.

 الناضجون الصادقون هم من يترفعون عن عرض تفاصيل حبهم على الشعب. من يحبون حقاً لا يبتذلون حبهم بعرضه أمام الغادي والرائح، بل يظل محفوظاً كاللآلئ الثمينة في نطاق صفووي نخبوي من وسط العائلة الضيّق و الأصدقاء المقرّبين. المشاعر الحقيقية غير المزيفة حزناً كانت او حباً تملأ المرء بالرضا الصامت، فالسعداء لا يتحدثون عن سعادتهم بهذا الابتذال، و لا يثرثرون بها في كل فرصة تسنح فيما يشبه توزيع علكة للمضغ ليكون مصيرها في النهاية هو البصق، ولا يعلنون عن ممارساتهم العاطفية بإطلاق الصواريخ النارية هنا وهناك وفي كل مكان، بينما يعوي المرتبكون و الخائفون والمزيّفون والمجوّفون بما معناه: "أنظروا إلينا أرجوكم، فنحن سعداء! سعداء للغاية! نحن متحابين سعداء!" في تمثيلية متصلة بلا هوادة. و في نهاية اليوم بعد أن تفرغ كل بطاريات الألعاب المتحركة و تنطفيء أنوار الصواريخ النارية، تبدو كل هذه العواطف المعلنة سمجة وسخيفة ومبتذلة ورذيلة ومثيرة للاستهزاء ولا تحتمل.

 العارفون بالمحبوب يصمتون صمت العارفين، صمت الفاهم الحكيم، الذي يرفض أن تبتذل عواطفه المقدسة، لتهبط من قصرها الذهبي، إلى ألسنة العامة من أراذل الناس فيلوكونها كالحلوى الرخيصة بالنقد أو بالاستحسان. حتى هؤلاء الذين يحبون حقاً حين يقررون الزواج، لا يقيمون حفلات زفاف ضخمة ليبهروا بها الآخرين ليشتروا رضاهم الاجتماعي، بل يقيمون أبسط حفل زفافٍ ممكن، بل لا يقيمون زفافاً من الأصل. بينما لا يملك صبية السذاجة، والأصدقاء في دائرتهم المتواضعة، و غيرهم من المراهقين ذهنياً ونفسياً، أي شيء حقيقي ليقدموه للشريكة، فكل ما يملكون تقديمه للشريكة هو بعض الكلام وبعض الفرقعات هنا وهناك بعد أن ينتهي المهرجان، وتنطفيء مصابيح الطريق، و تنتزع الأقنعة الحريرية من فوق الوجوه، ويعود المحتفلون ثملين مترنحين إلى بيوتهم، و يكنس الكناسون أوراق التيجان الورقية الملونة و شرائط الساتان الحمراء الخضراء الملقاة في كل مكان، تنغلق الأبواب على السعداء والتعساء على السواء، دون أن يعرف أحد ماذا يدور وراء كل باب و نافذة.