الثلاثاء، 9 يوليو 2013

غواية التمرد

هناك غواية وحشية في التماهي المطلق مع الأفكار المجردة.


أخرجت قطع الشطرنج الخشبية من صندوقها المغبر القديم كأحفورة من الماضي السحيق، وبدأت بقطعة قماش ناعمة جافة في إزالة التراب عنها ببطء. كنت على اتفاق مع أبي أن نعود سوياً للعب الشطرنج بمجرد عودته من غيابه الطويل، وقد اتصل ليخبرني مبتهجًا إنه راجع في الغد. فيما مضى كنا نحل سوياً مسائل الرياضيات، يتحجج بمساعدتي في دروسي كي يرجع لمتعة حل المعادلات، كلانا أحب حالة التركيز والتكريس الذهني المصحوبة بتشغيل الدماغ، الاندماج الكامل الهاديء، الإيقاع المنتظم مع توالي المعادلات. يقرأ القانون بإمعان، ثم ينطلق لا يحده أحد. في رحاب الجا والجتا والظا والظتا والدوال والأسس والجذور التربيعية وقوانين الميكانيكا والهندسة الفراغية وسحر المستويات، يسودُ الكون سكون تام. تهدأ صراعات العالم ونزاعاته التافهة، يحل الصمت ليكلل بجلاله كل الموجودات، يصل فيه المرء إلى أحد مستويات النرفانا، ذلك التماهي الكامل مع المطلق والواضح والمنطقي والجميل، الرياضيات هي تكريس لانهائي للعقل، ولا تخلو من العاطفة أيضاً، فيها لحظة ساطعة ثمينة، تلك الإشراقة المبهرة؛ لحظة الوصول إلي البرهان. في آخر مرة لعبنا فيها الشطرنج، مضت أيام طويلة وهو يحرك قطعه شارد الذهن، قبل أن يفقد تركيزه فيكشف مليكه أمام نقلة ممكنة لوزيري، لم ينتبه إلا بعد النقلة فقطب وزم شفتيه آملاً في سره ألا ألحظ هذه "الزلة". تبادلنا نظرة سريعة استرددتها على عجل قبل أن يتمكن من قراءتها. أطرقت بهدوء، حركة واحدة، وأسحق جيشه. نصر سهل. هممت أن أزيح مليكه. ثم عدلت، منعني حدس غامض من أن أقول له "كش ملك" وكأن شيئاً ما عزيزاً علينا معا سيهوى من علي بعدها مباشرةً. تجاهلت الفرصة السانحة للفتك بمليكه واسترخيت، بدأت أدردش حول السياسة بينما أحرك على الرقعة ما تبقى من قطعي بعشوائية حتى ابتسم وهو يغمغم "كش ملك". تبادلنا نظرات عميقة صامتة. إنه يعرف، وأنا أعرف أنه يعرف، وهو يعرف أني أعرف أنه يعرف، لكنه تجاهل الإشارة لما حدث وكلانا يشعر نحو الآخر بامتنان.

 عجيبةٌ هي مسالك الإله، فمعظم الشرور تنكيلاً بالفرد وحقوق الإنسان هي تلك التي ترتكب خاصةً باسم الانسانية من أجل حرية الفرد وحقوقه. قدرة الأطفال على ارتكاب البشاعات يعتورها نقاء حقيقي خالص، نقاء الشر، الطفل كيان معدوم الضمير عبارة عن "هو" خالصة صافية لم ينضج ولم تتكون لديه بعد لا "أنا" ولا "أنا عُليا" على معيار فرويد، تلك الوحوش الباكية الصغيرة تحرق القطط باستمتاع عميق، يسكبون عليها البنزين ثم يشعلون ذيولها بالكبريت ويتركونها تجري في الشوارع تعوي وتموء كتلاً مشتعلة من الفراء، يضحكون في جذلٍ مسعور. الأطفال كائنات خطرة، تستطيع أن تقرأ في وجه البراءة الجميل؛ القبح يضرب في الصميم، الشر المكين، بشاعة البلاهة، تلك القدرة المطلقة على ارتكاب المأساة، ودون مبالاة، التنكيل فائق العنف بأي شيء وكل شخص وحتى بذواتهم في سبيل الحصول على "لعبة"، الأعين الجاحظة جحوظ التنين، الأسنان اللبنية المتكسرة وحشية المنظر، الأفواه المفغورة الشبقة تلثغ وتثأثيء وتخور، تمضغ علكة رخيصة ماركة "المجتمع المريض"، تعوى في وجوهنا أنْ ليس ثمة "خير" في البراءة، إذا كانت البراءة "هو" خالصة.

 التماهي المتعامي مع الأفكار المجردة الداعية للإنسانية يحول البشر إلى مسوخ غير إنسانية. وفي مكان ما بالاسكندرية كهل وحيد تماماً يبكي دماً، ينعي شيخوخته المريضة المكللة بالعار والخواء والوحدة المطبقة، يتآكل حزناً ومرارة على ابنه الشريد الذي اختار مصير مطاريد الجبل. في زمن النضج أعرف أشياء مصحوبة بافتضاض بكارة الوهم، بانقشاع أبخرة الحلم، أعرف أن "التمرد" مرض من أمراض الطفولة، مثل الحصبة، يختفي في زمن النضج، وأن العجز الإنساني، أو بالأحرى اللا إنساني؛ عن الفهم، عن التواصل الآدمي، لا تعوّضه طبول المجد، أو حفاوة الطنانين، العيانين، الزياطين، خواء الأعماق لا تملؤه ضجة المراقص أو التصفيق في المسارح، كل الأفكار الخرقاء البلهاء في هذا العالم مقتحمة، نافذة، وقحة وكيتشيّة، تتسرب بعنف إلى المسام سماً زعافاً، مزعجة إزعاج الشوكة الرنانة. لقد انقشعت هالة السلطة التي زانت هامة أبي قديماً عن جمجمة مشتعلة بالشيب فلم يعُدْ إله باطش، ولا وحش ديكتاتور يرغب في استلاب حريتي، هكذا تكشف جبروته القديم؛ كما كنت أراه بعين الطفولة؛ عن شيخ ضعيف، كهل خائف، بحاجة إليّ بأضعاف أضعاف حاجتي أنا له، إنه الآن دوري أنا، ما أغرب أن احتياجه الأساسي اليوم يتمحور حول الإنصات، فقط بعض الوقت والإنصات، يريد أن يتكلم بفخر عن كفاحه وإنجازاته وأوجاعه وأدويته وهواجسه فننصت باهتمام، أن يعرف بعد كل هذه السنين رأيي الحقيقي فيه، يقف بقلب واجف أمام ماضيه، احتياجه عميق، عريق، للشكران. يرتعد فرقا أن يتمخض عناؤه الطويل عن فشل، مقت، رفض، ونكران. كل آلامه محتملة؛ إلا الحرمان العريق في شيخوخته من محبة الأبناء.

 قالها كافكا: "يا عزيزي أنت حرٌ، ولذلك بالتحديد أنت ضائع". اليوم أنت في الربع قرن من عمرك، في فمك طَعم مرٌ لمذاقِ حقيقتك؛ والعالم، مذاق معاناتك مع الإدراك نافذ الثقل كغطاء رخامي لمقبرة جدرانها اليقين، لكن لديك ما يكفي من الشجاعة كي تزدرديه لا أن تبصقه على رؤوس الناس. إنه يعرف، وأنا أعرف أنه يعرف، وهو يعرف أني أعرف أنه يعرف.

 لا تهلع يا أبي ولا تترك الحزن يعتريك، فأنا ابنك والآن وقعنا على صكوك صداقتنا، وأنا هنا، وسأجهز لك قهوتك بنفسي وأرص بيادق الشطرنج بانتظار عودتك، سأنصت لك باهتمام حقيقي، أسمح لك أن تدوس بكبريائك فوق كل انتصاراتي الرخيصة في معاركي الخاوية، وحماقاتي القديمة ترقد مدفونة في الظلام، كحشرة. 
 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق