الجمعة، 1 نوفمبر 2013

ما وراء الأرق

النوم هبة إلهية، لولاها لاجتاح العالم الجنون.
 ~ يوسف زيدان



 يتربص البؤس بالإنسان أينما كان كظلِّهِ، إنه يلاحقه حتى إلى سريره. الساعة الواحدة ليلاً، أتقلب على هذا الجانب حيناً ثم أتقلب على الجانب الثاني حيناً آخر: لا أشعر بأي إرتياح. ما الذي يجري؟! إنني لا أستطيع أن أنام. ما من فقدان يرعب الإنسان ويثير ذعره ويؤثر فيه مثل فقدانه القدرة على النوم. إنه يرمي بالفرد خارج المجرى الطبيعي للأشياء. كل الأحياء نيام إلا أنت، كل البشر ينعمون بغيبوبة النوم، بينما أنت تراقب التحرك البطيء للثواني والدقائق.

 زمن الأرق زمن صعب: إنه الوضع الذي تجد فيه نفسك في عزلة مطلقة، لا وجود لشيء حقيقي إلا أنت والعدم. تقضي يوماً بطوله وعرضه في مصارعة تفاهات الحياة اليومية، وعندما تأوي إلى فراشك ليلاً تكتشف بأنه لا يرحب بك؛ تحاول التصالح معه بشتى الوسائل لكن لا شيء يجدي: لقد أصبح فراشك عدوك، إنه لم يعد حتى فراشاً، إنه بساط من الأشواك.

 ما هو الأرق؟! إنه شعور ماحق بإطلاقية الوعي والزمن. يذهب المرء إلى فراشه في المساء، وعندما يغادره في الصباح يلاحظ بأن شيئاً لم يتغير. إنه لم يتخلص ولو بمقدار ذرة من متاعبه وهمومه، لقد كانت ليلته استمراراً لثقل نهاره. والحق أنه لا وجود إلا لجنَّة واحدة على هذه الأرض: النوم. اعتبر هذا الأخير غيبوبة مخلَّصة. إنه يحررنا من الوعي الدائم بحضور الذات وحضور العالم. النوم استراحة وجودية ترمم الشروخ التي تحدثها مفاعيل الزمن في ثنايا الروح وجنبات القلب؛ ولولا هذه الاستراحة، التي هي أيضاً شكل من أشكال النسيان، لكانت أدمغتنا قد أصيبت بالتقيح من جراء الوعي المستمر بالزمن وأحداثه. بالنسبة إليّ، في كل مرة تحاصرني الحياة وتضيق بي السبل لا أعود أرغب إلا في شيء واحد: الغرق في بحر من النوم العميق.

 كل شخص يرزح تحت عبء الأرق هو فيلسوف رغماً عنه. ففي كل مرة يهجرني فيها النوم اقضي الليل بتمامه في مراجعة كل القيم. الصمت المطلق الذي يطبق على الكون في الليالي البيضاء يخلق مناخاً ميتافيزيقياً مثالياً للدخول في حوار حقيقي مع الأشياء، حتى الفلسفة، في لحظات كهذه، تنقسم إلى نمطين: الفلسفة التجريدية التي تملأ الكراسات الجامعية، والفلسفة الحية التي تبدأ مع منتصف الليل.

 ما يمكن أن يعانيه الإنسان المؤمن جراء الأرق هو دائماً وأبداً أقل حدة مما يمكن أن يتكبده غير المؤمن. الشخص الأول يتحمل التجربة لأنه ليس وحيداً، إنه برفقة إلهه. لكن الشخص الثاني ملزم بالتحلي بالكثير من الجَلَد؛ فكونه محاصراً بين الاقتناع بفراغ الأرض والاقتناع بفراغ السماء يجعل التجربة التي يمر بها أشبه بعبور الجحيم على انفراد تام، فلا قناعة أرضية تنتشله، وسمائه قد هجرها من فيها.

 في الواقع، لا تخلو تجربة الأرق من بعض الإيحاءات الدينية؛ فكلما وجد المرء نفسه منفياً خارج الصيرورة الكونية إلا وأمسى في حاجة ماسة إلى التحاور مع طرف ما. ولا يملأ وظيفة التحاور هذه إلا إله ما. لكن الإله الذي ينبثق من جوف خواء الأرق لا يتجلى كموضوع إيمان بل كحد وجودي. إنه النقطة التي تتوقف عندها كل قوانا الإدراكية؛ ونحن نعرف، على ما علمتنا التجارب، بأنه هناك دائما نقطة نهاية أو حد؛ ذلك أنه ليس من السهل على الإنسان النظر إلى العدم المطلق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق