الأحد، 16 يونيو 2013

فلسفة التعري

منذ القِدم قام الإنسان بتشييد الفُلك ليراوغ الطوفان، أما الآن فيعكف على تشييد الطوفان ليراوغ نفسه. قال "فيتجنشتاين" أن الفلسفة هي مقاومة فتنة التفكير باللغة، أما أنا فأقول: الفلسفة هي مقاومة فتنة الطوفان بالتعري، طوبى للمتعرين في وجه طوفان لا ينفك البشر يهرولون صوبه بشغف بغيض، طوبى للتعريات التي تغربل أقنعتهم وتمحو رونقها الزائف، وتطمس ظلالهم.

 التعرية الأولى: لا تقرأ

 لو كنت تعتقد أن الكتب وسيلة لخلاص العالم، وأنها "مضاد حيوي" واسع المجال بإمكانه القضاء على درن البشرية المزمن، وأنها طريقة مثالية لتغيير الواقع وإعادة هيكلة لعلاقة الإنسان بالإنسان وبما حوله، إذا كنت مؤمناً بهذه الأمور فلا تقرأ، إذ سيكون استمرارك في فعل القراءة أشبه بمواصلة السعي نحو خيبة لن تنتهي أبداً طالما هناك نفس الشغف، ستكتشف أن القتلة في هذا العالم هم أقدر الناس على كتابة المراثي -المسيلة للدموع- في ضحاياهم، ستكتشف أن اللص الأبرع هو من يضع يمينه في جيوب الفقراء ويأكل من أجسادهم، بينما يسراه تكتب في خفة ورشاقة عن مآسيهم، وبدلاً من أن تصرخ مع "هولدرين" قائلاً: "ما نفع الشعراء في زمن الضيق؟!"، ستكون خيبتك عنوانها: ما نفع الكتب في زمن الضيق؟!

 كي تكون مثقفاً عليك بدايةً أن تكون إنساناً، أو كما قال د.عبدالوهاب المسيري "المثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل، لا يستحق لقب مثقف". الكتب في كثير من الأحايين تكون جداراً بين الشخص والثقافة هذا إن كانت الثقافة: رؤية للعالم يصاحبها سلوك يتفق معها يمتحنها ليعززها، أن تروي ظمأ قطة ضالة هو أحد التجليات الثقافية وليس أن تتجاهلها وأنت تقرأ على المقهى، , ولا سيما عن ركلها بغلظة، الكتب لاتصنع إنساناً ولكنها قد تصنع قناعاً متقناً الصنع للذئاب ليظهروا أقل فزعاً وأكثر ألفة للحملان، ما يصنع الإنسان ويجعله جديراً بإنسانيته هي مواقف باهظة التكاليف يتخذها المرء، ليس فقط أن يكون قانعاً على جزع بل ممتناً لألمها، لأنه لم ولن ينتمي إلى ذاته إلا بقدر ألمه في سبيل خلقها. الألم هو الإشارة الوحيدة الأكثر صدقاً على النمو والحياة، الاستجابة للألم في رأيي هي أكثر الدلائل التي تدعو للتفاؤل في حالات الغيبوبة، هذا الرأي هو على مسئولية مقياس جلاسكو لتقييم الوعي ايضاً، وإلا عليك ان تنتظر أن يخترعوا كتب تصلح ما افسده الواقع لمن يقرأها، أو لها وخزات تصلح مقياساً للوعي.!

 إذا كنت تبحث عن دفء عباءة اليقين فلا تقرأ، فالقراءة لا تقدم جرعة من اليقين كالتي تقدمها مجازا ً لعبة الطاولة. في الطاولة هناك قواعد وهناك دور للحظ معترف بوجوده وهناك نزال واضح بين الخصوم تتحكم فيه رميات النرد، والأهم أن هناك نتيجة معقولة فحتى هزيمتك يمكن تبريرها ويمكن التعويض عنها، ولكن الأسوأ والأغرب من خلو الكتب من اليقين هو افتقارها لمتعة "السؤال" العاصف، الكتب يقين بلا دفء وسؤال بلا أي خطورة أو مغامرة، الكتب أحياناً فاترة، إن كنت تتلمس طريق اليقين العب الطاولة أو أي لعبة أخرى تستهويك وإن كنت تتستجلب السؤال الجيد فاصنع سؤالك كمغامرة تحياها يمكنك أن تخسر في سبيلها أكثر من ثمن كتاب وبضع ساعات، الأسئلة المكرورة المجانية لا يمكن أن تكون ممتعة، الأسئلة والأفكار المستعارة من الآخرين لا يمكن أن تنبت الزهور في تربة روحك، الأسئلة التي يمكنك أن تدعوها جديدة وفريدة هي التي تهرب منها وأنت تهرول عبر السطور وحبر الصفحات المطبوعة، هناك الكثير من الكتب كتبها أصحابهم كأنهم يحفرون قبوراً لأسئلتهم: أحياناً خشية إضاعة العمر بلا جواب وأحياناً أخرى خشية العثور على جواب محبط.!

التعرية الثانية: أصمت حتى اراك

 قال عمنا صلاح جاهين "الكلمة إيد، الكلمة رِجل، الكلمة باب"، ولكنه لم يقل لنا ماذا تفعل هذه اليد. هل تمسك بغابة اشجار أم تغرس فسيلة، ولا إلى أين تتجه هذه القدم؛ نحو الهاوية أم نحو مرتقاها، ولا على أي الأماكن يمررنا الباب؛ على الزنزانة أم على الأفق. قد يتصدق اللص على المساكين ليبدو أكثر طهراً في عيني نفسه، وهكذا قد تقرأ لتبدو أقل جهلاً في عيني نفسك، إن كنت تبحث عن "مكياج" يجعلك أكثر فخراً بنفسك فيما تقابله من مرايا فلا تقرأ، لأن القراءة "مكياج" لا يمكنك أن تأمن عاقبته، يتغلغل في وجهك ولا يكون في وسعك أن تزيله إلا بإزالة الوجه. فالأفضل أن تتصدق بثمن الكتب حتى تحتفظ بالوجه إن أردت. بما أنك خالفت نصيحتي ولم تزل تقرأ حتى هذه اللحظة فإليك أكثر تجليات القراءة التباساً وتمويهاً: ليس بمقدورك أن تقتنع بعدم القراءة إلا بعد تلتهم الكثير من الكتب، هكذا أتحايل -مرغماً- أن أصف لك ارتكاب القراءة كأنجع الوسائل للبرء منها.

على ما يبدو أن سقراط أخطأ حينما قال "تكلم حتى أراك"، فالكلام أقدم المراوغات والوسائل التي صنعها الإنسان ليتخفي، وكأن الإنسان أعجزته الطبيعة عن تطوير آلية للتخفي على المستوى الجسدي كجلد الحرباء فطوّر آلية صوتية للقيام بذلك، صوت الإنسان نظيرٌ لجلد الحرباء. كل الكلمات أقنعة وفيها شبهة واضحة للتصنع سوى "آه"، فلنأتي بسياسي له في الخطابة نصيب الثائر من الغاز والخرطوش ولنلقي بحجر ثقيل على قدمه، هل سيتشدق حينها وتنتفض عروقه وهو يهتف عن الحرية والعدالة والديمقراطية؟!، فقط ستكون استجابته "آآآآآآآآآآآآه"، زفير متطاول لم تساهم في تنغيمه كثير من أحبال جهازه الصوتي التي يرهقها في خطاباته العصماء.! في مقال رائع لجورج أورويل مهندس كابوس الأخ الكبير "1984" بعنوان "السياسة واللغة الإنجليزية" يصل إلى أن " العدو الأكبر للغة هو الرياء والنفاق"، لأنه المحرك الأول لها والحافز الوحيد على استخدامها، إننا نتكلم لأننا ندرك أن الصمت كفيل بتعريتنا أكثر مما نود فنسارع لطمر خجلنا بالكلام، إننا نتكلم لأننا ندرك أن الصمت لا يستر في أوقات كثيرة تلك اللامبالاة التي نشعر بها تجاه الآخرين، إننا نتكلم لأننا في الصمت نسمع من أنفسنا همهمات لا نفهمهما وإن فهمناها لم نتبين مغزاها، إننا نتكلم لأن شعورنا بالوحدة يتفاقم في الصمت ولكننا نرفض أن نهدم جدران الوحدة عبر تواصل حقيقي "ميتا-كلامي" إن جاز تسميته.. لا يحتاج لجسر صوتي هش، وبدلاً من ذلك نسارع إلى "الكلام" لنرسم على الجدران نوافذ وهمية ونتفنن في زخرفتها بالبلاغة، ولربما كان على الوجه الآخر من الجدار إنساناً آخر يسهب في رسم النوافذ الوهمية، ويظل بين الوجهين حائط من العزلة وكثير من نوافذ كلام.!

 الأدهى من أننا حين نتكلم تتردد أصواتنا بين جدران عُزلتنا، والأنكى من أننا نتكلم للسيطرة على ما يراه الآخرين من ذواتنا. الطامة الكبرى أننا حين نتكلم لسنا نحن من يتكلم، نكون بوق لأصداء غيرنا، حناجرنا خزائن نسى فيها أجدادنا متعلقاتهم، حناجرنا اصبحت سلة مهملات يلقي بها الآخرون فضلات أذهانهم فيها، حناجرنا تنطوي على الكثير من الفوضى التي لا نستطيع أن نميز من بينها ما يخصنا، قد تقول ممتدحاً فتاة "انتي بميت راجل" فيكون هنالك صف طويل من أسلافك الذكوريين هم من يتحدثون عبرك، قد تقول "أصاب الهدف" فيكون هنالك صف أطول من أسلافك الصيادين أو المحاربين هم من يتحدثون عبرك، لكي لا تكن بوقاً لصيحات الأسلاف ولكليشيهات شاشات التلفاز وللفضلات الصوتية للعابرين، يتحتم عليك أن تحاكم "الكلام" وتشذبه وتعيد تشكيله، لكن الدائرة المفرغة تكمن في أن رائدك في إعادة صنع "الكلام" هو عقل ساهم "الكلام" نفسه في تشكيل بنيته ومفاهيمه وأحكامه.!

 حين قال سقراط "تكلم حتى أراك" كان يعني "تكلم حتى أظن أنني أراك وحتى أظن فضلاً عن هذا أنني حين أتكلم تراني". الطفل يقوم بالدندنة ليطرد الأشباح التي يتوهمها، ولكن عندما يكبر قليلاً يجتهد في إنضاج "الدندنة" لتصير كلاماً يستعيد به الأشباح التي طردها، إنه يتكلم لا لتراه الأشباح بل ليتوهم أن الأشباح تراه، إنه يمنحها جسداً من الكلام لكي تكفيه مؤونة الخروج بحثاً عمن يؤنس وحشته العضال.! من المألوف أن يخيم الصمت ثقيلاً على جلسة ما، فيبادر أكثرهم في البحث عن أي موضوع وحينها يتشبثون بأوهى خيوط الكلام تشبثَ المنتحر بحبل (النجاة-المشنقة)،لِمَ؟! الصمت يعقد محاكمة نزيهة وحازمة للعلاقات، العلاقة الحقيقية تتعطش للصمت وكأنه اللغة وقد أوجزت فأعجزت، أما العلاقة المفتعلة فلابد لها منها غطاء صوتي يستر عورة المسافة الباردة ويغطي على أنات الذوات الوحيدة، المتجاورة دون تواصل، الصمت إذن مقصلة للروابط الإجتماعية "الزائفة" لكن "الضرورية" لنمط حيواتنا، لذلك يبدو أن الصمت هو لغة لم ينتخبها أغلب البشر لتمثيل أفكارهم ورؤاهم وانفعالاتهم وانتخبوا بدلاً منه "الكلام"، وحدهم العشاق والمتصوفة وبعض الشعراء مَن يدركون أن الصمت هو الرؤية الصافية غير المضببة، وأن "الكلام" منظار معتم ملوث ببصمات قاتمة لعدد لا يحصى من الشفاه. اخرس فلن تخسر بصمتك سوى الكثير من الأشباح، اخرس فهناك احتمال ضئيل -يستحق المحاولة؛ لحدوث المعجزة الأروع والأندر: أن يراك أحدٌ ما!

يتبع..


هناك 5 تعليقات:

  1. أ.محمد ..تحياتي..قبل مااكتب التعليق دا كنت علي حسابك ع الفيس وكنت هتجرأوهأكتب لحضرتك رسالة ع الخاص مفادها _أي الرسلة_ مالك تضن علينا بإبداعاتك الفريدة ؟...وقبل أن أكتب رسالتي خطر لي أن أمر علي لاعب النرد لأري كيف حاله...ووجدت هذة الصاعقة التي بأعلي ..هذا الزلزال..تعليقي علي هذة (الأيقونة)يحتاج مني كثير من القراءة المتأنية لأن مثل هذا النص يحتاج مني لأكثر من مراجعة قبل أن أسطر سطراً أو أخط حرفاً معلقاً لأنني أخشي لو تسرعت بالتعليق فقد (أجرح) هذا النص النوراني.. أ.محمد صدقاً أنا غاية في السعادة أنك جزء من عالمي ..لي عودة بالتعليق علي النص ..واسمح لي ببعض التساؤلات في حضرتك أستاذي...<< مجنون الأمل>>..<< أحمد علي>>.

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك جدا يا أحمد، وانا أسعد دائما بمرورك على المدونة.

      حذف
  2. أعذرني لتطفلي..بخصوص الثلاثي المقدس << القصة القصيرة..الرواية..الشعر>>هل في لحضرتك أي أعمال ..وهل هذة الألوان تروقك ...معلش أنا آسف وعارف اني كدا( بعك) بس مش قادر امنع نفسي ..حابب اعرف من حضرتك عن كتابك المفضلين بشتي المجالات ..كذلك شعرائك..مين أقرب الروائيين لقلبك وما هي أفضل الأعمال الروائية عندك..أحب أفلام السينما لديك ممثلينك المفضلين ..إكمالاً لتطفلي ..أعشم وأرجو في رد دمسم ومفصل ...وآسف علي أي أزعاج ..سببته\أسببه\سأسببه..لحضرتك.

    ردحذف
    الردود
    1. لا يا أحمد ما عنديش اي أعمال، كل ما كتبته موجود في الزاوية دي بس (المدونة)، ليس عندي روائي مُفضل واستمتعت بصحبة رواية "عزازيل"، أحب الشعر وأقربهم لي محمود درويش والمعري، باقي المجالات ما عنديش حد مفضل سوى كارل ساجان وريتشارد فاينمان وستيفن هوكينج في العلوم الطبيعية، ومعظم قراءاتي في الفلسفة، الفيلم السينمائي المفضل Detachment.

      مافيش أي ازعاج يا أحمد، أنست بوجودك في المدونة.

      حذف
    2. حسنا - طالما نصحتني منذ البداية بعدم القراءة ·· اذن لن اقرأ مقالك هذا يا ايها الافلاطوني يا محطم سقراط .....
      تحياتي

      حذف