الخميس، 16 مايو 2013

متلازمة العودة



لدي صديق لطيف، رجل مصري يعيش في آيرلندا مع زوجته وأولاده الذين لا يتحدثون العربية. حياته مكتملة ولا شيء ينقصها تقريبا، حياة مثالية، مثالية الى درجة الروتين. وبسبب حياته المملة في الجنة فهو يجلس طوال اليوم على تويتر والمدونات وفيسبوك، يشغل نفسه بمصر والمصريين، يتحدث عن الثورة، عن الاخوان والسلفيين، والدين، والعلمانية ..إلخ. يتابع الأخبار العربية المصرية والخليجية بأكثر مما يفعل العرب والمصريون. كنت اسأله دوماً باستغراب: لماذا تفعل ذلك؟!، ما قيمة هؤلاء العائشين على الهامش في العالم الحقيقي أو في عالمك؟! لماذا سيندروم العودة، ولو على الڤرتشوال وورلد؟ أنا معجب به، لأنه انتشل نفسه بالدراسة والعمل والزواج وانجاب الأبناء من بركة الوحل المسماة بالعالم العربي، فلماذا يصرّ على العودة؟ كنت أسأله بانزعاج حقيقي وضيق لماذا يختلق كل هذه الصراعات التافهة حوله؟! ما قيمة هؤلاء الرعاع الذين يتابعونه ويشتمونه ويمتدحونه على تويتر؟ إنهم هوام لا وزن لهم في هذا العالم الفسيح. لاشيء عندهم يمنحوه للعالم، دنياهم كلامٌ في الهواء، فقال إنه يتصرف بنوع من الضمير، لديه أفكار معينة، علمانية وليبرالية وديمقراطية، يريد أن ينقلها للناس في العالم الثالث كي “ينتشلهم من الظلام”! أسفتُ على هذا الطبع الأوروپي المثالي، هذه العقلية اليسوعية، الطبع الذي يدفع من يعيشون حياة مثالية في أوروپا إلى السفر لأفريقيا في قوافل الإغاثة الإنسانية، حيث يموتون ميتة تافهة في الأحراش بلا معنى بالأوبئة ورصاصات المليشيات المسلحة.

 صديقي هذا ليس وحده. هناك عشرات الآلاف من المصريين والعرب المهاجرين يجلسون طوال اليوم على تويتر وفيسبوك يتحدثون عن الوطن وهمومه، يحلمون بانصلاح الحال، يحركهم الحنين إلى الماضي، يفتقدون أشياء كثيرة، أشياء تافهة وحتى قذرة، لأنها تنتمي إلى قطعة الأرض المسماة بالوطن. كلهم خرجوا مضطرين، خرجوا مجروحين، يطاردهم الفشل المالي والأكاديمي والقهر الأمني والاضطهاد الديني والحصار الاجتماعي والجنساني والمنع والمصادرة والترهيب، كلهم خرجوا ناقمين، لكنهم لم يخرجوا أسوياء، بل شائهين مختلين. مثل محب ضعيف الشخصية مطعون في كرامته، يعبث به محبوبه ويتلاعب به، يلقيه حين يشاء ويستعيده وقت يشاء ثم يرميه مجدداً، حبه يعجزه عن بتر هذه العلاقة المريضة، باقٍ على المحبة، غير قادر على إغلاق قلبه، يترك دائماً باباً صغيراً موارباً في القلب ليعود المحبوب السادي منه كل مرّة ليعيث فساداً وتقطيعاً، ثم يخرج. يفتشون عن رفقاء الوطن في الغربة، يحتمون ببعضهم البعض كالفئران المذعورة، يبحثون عن مصر في أكلة أو غنوة، في حساب على تويتر، في صورة على فيسبوك. كل من سافروا ناقمين وحققوا إنجازاً ما، تركوا هذا الباب الموارب في القلب، ليعود منه الوطن من جديد، ليبعث كالعنقاء من الرماد، يصحو ويتمطى ويتثاءب ويعوي وينفث السُّم والمرض والجراد والضفادع والشر من جديد. صدقني يا صديقي، أنا لا أفهم لماذا عاد البرادعي بعد كل هذه العقود الطويلة من ڤيينا، بعد المنصب الدولي المحترم ونوبل والتكريم والحياة النظيفة الناجحة المسالمة ليصبح كعم "شكشك"، مسخاً فرانكستاني الملامح وضيفاً هو وابنته الجميلة على محطات المسخرة والحقارة؟! لماذا عاد زويل من أرقى جامعة في العالم متمسكاً بقطعة الأرض الضيقة هذه التي لا يحتاج إليها لا هو ولا مصر فيقحم نفسه في معركة صغيرة دنيئة جعلته مهاناً موصوماً باللصوصية مضغة في الأفواه؟! لماذا عاد فاروق الباز بمشروع ممر التنمية كي يقلب عليه الصحفيين الاشتراكيين الأوساخ وأحقاد زملاء الجامعة القدامى فيلطخونه باتهامات العمالة والنصب والفساد؟! لماذا جاء سير مجدي يعقوب ليفتتح مركز القلب بأسوان فتطارده قضايا تجارة القلوب ونقل الأعضاء؟! لماذا عادوا ولا أحد يريدهم، والجميع يمقتونهم لشهرتهم وثرائهم ونجاحهم؟! لقد عادوا لا ليخدموا الوطن، حتى ولو كان هذا هو السبب المُعلن. لقد رجعوا لأنهم بحاجة إلى تتمة. خرجوا لا يحملون إلا حقيبة ملابسهم موجوعين ينزفون هزيمة ويريدون أن يعودوا فرساناً مكللين بالغار، لم يغفروا الركلة التي كانت قاصمة للظهر، يتحسسون في وجوههم محل اللطمة. كلهم إما هربوا من الحصار أو انطردوا محمّلين بالشتائم واللعنات، آلاف الأكاديميين الأطباء والمهندسين والمبدعين هربوا من الجامعات بعد معركة طويلة مع أساتذتهم الحقودين، پروفيسيرات تحطيم العقلية والشخصية والمستقبل والسمعة والكيان، آلاف من أبناء الأسر التي صودرت أموالها فهاجروا ليصنعوا حياتهم من جديد، وآلاف من البسطاء هربوا من الفقر ونحتوا الصخر وتحولوا إلى مليونيرات، مئات الآلاف من اليهود والمسيحيين والبهائيين والملحدين والمثليين، كلهم خرجوا ممرورين تعشش الكآبة والنقمة على الوطن في صدورهم. سافروا، أقسموا إن نجحوا لن يعودوا. معركتهم لم تكن مع النظام، وإنما مع السيستم، التركيبة الاجتماعية والاقتصادية كلها كريهة.

   لكن العقود تتالت ومرت، ونجحوا نجاحاً عظيماً، تقلدوا فيه نياشين الآدمية والكرامة، وعادوا، كأن الوطن داء في نفوسهم وأبدانهم مكين، عادوا يأكلهم الحنين، وقد أمدهم الاطمئنان إلى ذواتهم الجديدة بالغفلة والاسترخاء، عادوا، يتشممون رائحة المجاري ويملأون صدورهم بالتراب، عادوا إلى قوانين الحسبة والتكفير وقذارة مخبر الپوليس، والبناء الاجتماعي الخانق الذي يصنعه العساكر والبطاركة والشيوخ، عادوا، لتطاردهم صحافة الفضائح والضرائب والاشتراكية ونميمة المعارف والحقد الطبقي، عادوا إلى الشرب من نهر النيل، ليستحموا في الطين، عادوا إلى البلهارسيا والإنكلستوما والدوسنتاريا، إلى هواء القاهرة الملوث بالعادم والكربون والرصاص، والأغيار والمتشردين والمتسولين وسكان العشوائيات، إلى الأكاذيب في الصحف والفضائيات، والأعمال الفنية الفقيرة الجوفاء، من سينما ومسرح ورواية، إلى حيث يتحكم موظف الحكومة البيروقراطي الحقير في عالمك من أوله لآخره، ويقرر مصيرك كاهن جاهل شيخاً كان أو قسيساً يتلقى الأوامر والتعاليم من شبح السماء، عادوا وفي قلوبهم مرض، اسمه الوطن، لأنهم بحاجة إلى تتمة، إلى مصالحة نهائية مع ماضٍ حي كالجرح المفتوح، إلى انتزاع اعتراف ما بالجدارة من قِبل هؤلاء الذين ظلموهم وأخرجوهم مطرودين. هذا الداء، داء "الاحتياج إلى تتمة" هو ما يقضي على كل ما حققوه في "الغربة"، الغربة التي هي وطنهم الحقيقي، داء يحيل بشراً عظماء خارقي الإنجاز في عين العالم الغربي إلى مسوخ جروتسيكية في أوطانهم. لاشيء ينتظرك في العالم العربي إلا التهكم والتدمير والحقارة والتنمر، إلا الاتساخ بالطين، لأن أهل وطنك أوساخ غارقين في الوحل يبحثون عمّن يرفل في الجمال والنظافة والسعادة ليجذبوه إلى الوحل معهم. ثق أيها الپيوريتاني العائد من الشمال، يا من تبحث عن تتمة، عن إجابة لتساؤلاتك المرة، عن انتزاع اعتراف شافٍ بالقيمة والجدارة، عن خياطة لجرحك المفتوح، أن قُرح الفراش السامة إن تمكنت من عضو، لا علاج لها إلا البتر.

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. ماهذا النص ..ما هذا التفرد..ماهذا السحر ..أية

    خلايارماديه ..تلك التي أبدعت ..أية موصلات عصبية

    تملك يارجل ..أمثالها مثل ما عندنا..أم هي

    موصلات_فريدة_ لاتنقل سوي _عصارات_ ..الفكر..الجمال

    ..الإبداع ...

    كتبت ذات مرة لأستاذي عليّ..

    لم تترك لي _ثمة من حل_ سوي أن أجمع من أحرف الأبجدية

    مكونات لفظي..إبداع وجمال وأتركهم

    _كالمعادلات الرياضية _ يتلاقحوا في تفاعل سرمدي

    ..لانهائي..فنخرج كبداية بنتائج

    كإبداع..مبدع..بديع......جمال..جميل..عساي أصل

    بنهاية المطاف ..للمادة _الأولي_ الخام.. للجمال

    والإبداع .._لعلي واجداً فيها_ أي هذة المادة

    _الأولي_..مايعبر عن _مكنونات قلبي_ تجاه.. شذي

    أخلاقك.. وما تنثرة من درر ....أراني مجبراً تجاهك أن

    أسطر ذات كلماتي ...

    ردحذف