الخميس، 9 مايو 2013

تحليق منخفض







في الحديقة العامة تحت شجرة كبيرة يجلس كعادته ليحدّق في أوجه العابرين وملابسهم وأحذيتهم، ومن ثمّ يتنقل بنظره إلى أسراب العصافير التي تحط حوله تارة وتحوم مبتعدة عنه تارة أخرى، وبعد أن يخلو الطريق المقابل لمقعده من العابرين وتحلّق أسراب العصافير كلها فجأة، ينتهزُ الفرصة ليعود إلى صفحة الكتاب التي توقف عندها ليلة البارحة، يقرأ سطراً أو سطرين على عجل، ومن ثم يعود مجدداً ويحدّق في أحد العابرين أو ليلتفت إلى أحدهم وقد جاء ليجلس على مقعد من المقاعدِ التي تجاوره.

اعتاد على المجيء إلى هنا كل صباح يوم جمعة، وأصبح عنده من الخبرة ما يكفي ليميز أياً من هؤلاء الجالسين على المقاعد التي تجاور مقعده ينتظر أحداً ما، وأيّهم جاء ليجلس وحدهُ هارباً من أحد ما، لكنه كثيراً ما يحار في أمر هؤلاء الذين يجلسون وحدهم بصمت فاضح وبعينين حزينتين وجسد منهك وهزيل، ويحار في أمر أنفاسهم الموحشة التي تتسلل إلى مسمعه وتجبره بشدة على أن يلتفت إليهم مراراً، وفي كل مرة يحار فيها في أمر أحدٍ من هؤلاء تراوده أفكار في أن يقوم إليه ليجلس إلى جانبه ومن ثمّ يخبره بأنه ليس الوحيد الذي يشعر في الوحدة، وأن الوحدة تافهة هلامية لا وجود لها إذا ما أيقن بأن هناك حتماً من هو وحيدٌ مثله في هذا العالم، وحتى لو كان بعيداً عنه، فهو يشاركه عبءَ هذه الوحدة القاتلة. لكنّه سرعان ما كان يدفن أفكاره جانباً ، ويعود – وحده-ليحدّق في أوجه المارة القاسية وأسراب العصافير الهاربة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق