الجمعة، 26 أبريل 2013

دائرة الجمال



الدائرة أكمل الأشكال هندسية. 
-فيثاغورس



بطريقة عفوية وفي بعض الأحيان، أجد الأشياء الواقفة على عتبة القبح جذابة جدا، ذلك الجمال
القاسي بالغ الجاذبية المفرط في التوحش.
كهؤلاء المرتمين في احضان الضعف أقوياء بشكل حقيقي، ذلك الضعف الدرامي المثير.
حاولت عبثا أن أمسك مقياس التدرج الجمالي معكوساً، محاولاً تأمل الجمال في الأشياء القبيحة، وتأمل القبح في الأشياء الجميلة، استشفاف القوة في الضعف والعكس. 
مثل تلمس النشوة في رائحة عطنة، تذوق الحلاوة في شراب مُر، تحسس اللذة في الألم الشديد، استشعار البهجة في فزع خالص، وهكذا إلى إلى آخر درجة في مقياس الجمال معكوسا. 
لا يكتمل الجمال إلا باقليل من القبح، أن يبدو الوجه منحرفاً قليلاً غير منضبط السيمترية،القليل من عدم المثالية، القليل من عدم الإتزان بمثابة العلامة المميزة التي تمنح الشخصية الجمال، وتعدمه، بخلاف الجمال الأفلاطوني المثالي النيتشوي، ومن الممتع أن أحاول التحرك في الاتجاه الآخر حتى تكتمل الدائرة. 

في علاقاتنا الإنسانية تكتمل الدائرة بالضد والنقيد: أن تستشعر الصداقة الوطيدة في عداوة بغيضة، أن تتلمس وتفهم التدليل والألفة في سُبة فجّة، أن ترى الحب العارم في الكره البين، أن تستشعر عمق التواصل في الصمت التام، أن تحس الاهتمام الحقيقي مختبئاً بين طيات التجاهل المتعمد، أن تدرك مدى الهشاشة في شخص يلوح زاعقاً بقوة شخصيته، رؤية التعاسة في صورة زفاف، وبقية الأشياء التي ليست دائماً كما تبدو.

الجمال الذي تقدمه لنا المؤسسات الرسمية وتصدره إلى العامة باعتباره جمالاً أحياناً ما يكون قبحاً بالغاً، مفهوم "الجمال الأمريكي" بمقاييسها الفادحة الفاقعة: الفتاة الشقراء نجمة فريق التشجيع بالمدرسة، التي تتحدث عن الجنس بحيوية وخبرة امرأة في الثلاثين، وتلقي حولها الإيحاءات الجنسية طوال الوقت، هي في الحقيقة عذراء كما كشفت عن نفسها في آخر الفيلم.

أسرة -تبدو- سعيدة تسكن في ضاحية من الضواحي  ويتناول أفرادها العشاء على أنغام الموسيقى؛ تتكون من زوجين غارقان في التعاسة ولهم ابنة منطوية، وبينما يمارس الزّوج  كيفن سبايسي العادة السريّة غارقاً في فانتازيا وهميّة مبهجة مع صديقة ابنته ذات الجمال الأشقر المؤسّسي الفاقع؛ تنزلق زوجته  آنيت بانيه إلى علاقة، مع رجل تظهر صورته في إعلانات على جنبات الحافلات العامة، يتحدث عشيق الزوجة كثيراً عن "ضرورة أن يعكس الشخص الناجح صورة النجاح" في تأكيد حاسم على براعة الصورة البرّاقة في مداراة كل الخيبات وكل الإحباطات. بالحديث عن الجمال الأفلاطوني المثالي النيتشوي المتفجر،  وبحسب المعايير الأرسطية، فاعتلال الجسد وعدم استوائه  يؤديان الى اختلال في النفسيّة، و في الرؤية الخيرية للحياة. هذا في حد ذاته صحيح، لكن ليس دائماً صحيحاً. من السهل أن نقول إن الوسيم صحيح الجسد شخص سويّ النفسية؛ إلا أنه أحياناً ما يكون الجميل شخصاً مهدما مخبولاً، جماله الفائق يجر عليه التعاسة طوال حياته، في عالم قبيح يضغط عليه ويشعره بالاغتراب، وبالرغبة في الانكفاء على الذات، ثم السقوط في وحل التدمير الذاتي، أو تعجّل الانتحار: مرلين مونرو، جيمس دين، جيم موريسون، داليدا. على الطرف الآخر من مقياس الجمال  والقوة؛ يبدو لي شخصاً مثل ستيفن هوكنج المشوّه أو نيتشه معتل الصحة، في جوهره خارق حقيقي.

 معظم من شاهدوا فيلم الجمال الأميركي كان مشمئزاً من آنجيلا الفتاة الشقراء المصطنعة، قليلون من تعاطفوا معها لإدراكهم مأساة الوحدة والخواء العاطفي الذي تحياه، دافعاً إياها إلى ملء فاها بالأكاذيب وخلق حياة وهمية عن حياة جنسية حافلة. رحلة الفتى والفتاة المراهقين لاستكشاف الجمال في هذا العالم، متوّجة بالجمال في جلال الصمت نحو الموت لحظة أن تمر أمامهما سيارات سوداء جنائزيّة صامتة. يتقنّع الابن في تجارة المخدّرات، التي ينظر إليها الفيلم باعتبارها بيزنس كأي نشاط اقتصادي آخر له زبائنه وفوائده الممتعة؛ و جزءاً لا يتجزّأ من فكرة الحريّة، بينما يبدو الأب؛ نموذج عسكري صارم؛ آية في القبح والقهر والقمع والشناعة، ورمزاً للحروب الأميركية؛ و للعدوان على الأبرياء حتى ولو كانوا فلذات الأكباد، لا همّ له إلا التجسس على ابنه واستلاب حريّته وتدمير شخصيته، إلى درجة تتبع قطرات بوله وتحليلها دوريّاً للتأكد من أنه لا يتعاطى المخدرات، مرتكزاً على سلطويته و فوقيته بدعوى نبل الغاية ومعرفته المطلقة بصالح الابن، رجل العسكرية المنضبط الذي يعنف ابنه طوال الوقت هلعاً من انزلاقه إلى المخدرات والمثلية الجنسية؛ هو في حقيقة الأمر مثلي التوجه، هش واهن كطفل يتيم يتوق إلى بعض العطف.

 من هنا نتلمس كيف يكون القمع الشديد أسرع الطرق إلى الحرية، أن الفاشيّة العمياء تأكل نفسها و تعجل بظهور الديمقراطية، أن الحكم الديني هو أسرع الطرق إلى العلمانية، أن السُلطة حين تحكم قبضتها الخانقة على الرعية فإنها تؤدي إلى نمو آليات ضدية خفية تختمر تحت السطح؛ حتى تحين لحظة الانفجار أو الثورة فتقوم بالتمرد على السلطة، وإزاحتها من الطريق، القمع السلطوي السطحي الذي قام به الأب على الابن خوفاً عليه من تعاطي المخدرات حول الابن إلى تاجر مخدرات كبير تحت السطح، التجارة التي يقدمها الفيلم باعتبارها بيزنساً إيجابياً و نشاطاً مبهجاً. الفيلم إدانة لمؤسسة الأسرة؛ والمؤسسة العسكرية؛ و المؤسسة الجمالية، و للفكر المؤسسي ككل ذي المعايير الثابتة والنسق القيمي والقوالب المتعارف عليها.



"كانت أحد تلك الأيام، التي يتوقع فيها هطول الثلج في أي لحظة، وكانت هناك هذه الكهرباء في الجو، نستطيعين تقريبا سماعها، صحيح؟!، وكان هذا الكيس البلاستيكي، يرقص معي، كطفل صغير يتوسل إلي أن العب معه، لمدة خمسة عشر دقيقة. 
ذالك هو اليوم الذي أدركت فيه وجود حياة كامله خلف كل شيء، وهذه القوة الخيّرة التي تخبرني بأنه لا يوجد أي سبب للخوف، أبداً. الفيديو يساعدني على ان اتذكر،  أحتاج أن اتذكر! انه يوجد أحياناً الكثير من الجمال في العالم، أشعر اني لا استطيع تحمل ذلك، وأن قلبي سينهار".


تلك الفوضى الموجودة في لقطة فيديو عفوية لكيس بلاستيكي يحركه الهواء بحرية و عشوائية، يعتبرها الفتى أجمل اللقطات التي صورها مطلقاً، الفيلم يقدّم هذه الفوضى باعتبارها الخلاص من رتابة العالم وروتينيّته الكريهة وزيفه المصطنع والمفتعل. في عالم فوضوي كهذا؛ يتخلّى  كيفن سبايسي عن وظيفته البرّاقة في سبيل العمل بمطعم، يقلي الهامبرجر بأقل قدر من المسئوليات، ليفسح لنفسه مجالاً أرحب للتأمل فيما يريده حقاً من مُتع في هذه الحياة. أما نهاية الدراما الغامضة فتشير إلى ضبابية الحقيقة واستغلاقها على الإنسان، أن الحقيقة الواحدة، حتى ولو كانت فيزيائية خالصة –صوت الرّصاصة/الموت- تختلف مستويات إدراكها باختلاف متلقّيها. ينتهي الفيلم بأغنية  البيتلز "لأن العالم مستدير، فهو مثير". كما يكتمل يكتمل الحمل بالميلاد، ويكتمل النهار بالمساء، ويكتمل العقل بالجنون، ويكتمل النظام بالفوضوية، و تكتمل الحياة بالموت، و تكتمل القوة بالضعف، يكتمل الجمال بالقبح كما يكتمل الكمال بالنقص. 




هناك 3 تعليقات:

  1. لاشك عندي أن مؤلف الفيلم الرائع ..المؤلف \الفيلم..الأثنان رائعان ...عني بالعنوان (القبح الأمريكي) لا الجمال ..وإنما جاء العنوان كدرب من دروب (فن الصنعة) ..المغلف بسخرية حارقة من الحلم الأمريكي.

    ردحذف
  2. لا يكتمل الجمال إلا باقليل من القبح، أن يبدو الوجه منحرفاً قليلاً غير منضبط السيميترية،القليل من عدم المثالية، القليل من عدم الإتزان بمثابة العلامة المميزة التي تمنح الشخصية الجمال، وتعدمه، بخلاف الجمال الأفلاطوني المثالي النيتشوي، ومن الممتع أن أحاول التحرك في الاتجاه الآخر حتى تكتمل الدائرة........عبرت ببراعة _أغبطك عليها_ عن مفهوم الجمال الناقص الذي تحدث عنه الأقدمون ولعل في تمثال أفروديت _مبتور الذراعين_ حجة لا تدحض علي صحة كلامك ..حيث يؤكد العارفين بدروب الميثولوجيا الإغريقية أن تمثال إفروديت _رمز الإشتهاء والجمال_ لم يكن يوماً كامل وبتر بل هو منذ الأزل القديم علي هذا النحو _أي مبتور_ وفسروا هذا البتر علي أنه رسالة من قبل النحات _ فككت أنت طلسمها ببراعة _غبطك عليها_ عن جمال الجمال الناقص.

    ردحذف
    الردود
    1. اضافة رائعة وفي محلها يا أحمد!، تحياتي.

      حذف