الجمعة، 26 أبريل 2013

بالونة الأمل


لقد كان خرابا شاملا، يطول الأبدان ويثني الأرواح، ولن يجد المتفائل إلا بعض الأمل في قرارة الروح التي تنقذ نفسها بالحكاية. فعندما يصير اللّغو مهربا أخيرا ينفخ الأمل بالونا كبيرا يراه الجميع ولا يمسك به أحد. يُفرط اصحاب الحكاية في انتزاع الضحكات من انحناءات الوقت، ينفخوا البالون وكلما بالغوا صار الحديث مثيرا للشجن، فالبالون يعلو كلما كبر. وما أسهل ما تهرب به الرياح، وما أسهل ما تفضح انتفاخه شوكة تافهة في الطريق.

وما كان لي أن أنفخ في أمل كاذب فلست أخرس، ولكني لست من أصحاب الحكاية، وقولي لم يخرج من شفتاي غلا لقضاء شأن بسيط يسمح لي بالبقاء في حدود ما يتاح في بلاد الحد الأدنى، وقد وجدت بعد أن نفخت حتى انتفخت أنه مثقوب. أملي بالون مثقوب وأنا مثقوب مثل بالون الأمل، وما أنا إلا صيغة أخرى من بلاد الحد الأدنى.

قالت لي فتاة عرفت كيف تبقى على قيد الحياة ببعض من روحها، وعلمتني كيف تخفي جروح روحها عن العابرين، وتلبس ابتسامة وتخرج للطريق مالئة فمها باللعنات: "لن أموت بسهولة، سأعاند كافعى الكوبرى، وسألدغ لدغات قاتلة من تُسوّلُ له نفسه أن يمشي على عنقي، ولن أرقص على ناي حاو سوى قلبي".

"ذات يوم ستنقشع الغمة". قالتها عجوز التي كانت تجلس كل صباح في زاوية الشارع الظليل تبيع الحلوى والمناديل الورقية، وكان الناس يشترون منها تبركا، فقد كانت توزع الحكمة في حلوى الصباح، وكان الناس من فرط اليأس يحلمون، حتى أنهم لم ينتبهوا لإختفاء العجوز التي تغذي الأحلام بالأدعية والدموع.

نافخو البالون بالتخيل الخائب ، يقولون في مثل حالي: " ستقع أشياء عظيمة في زمن لا يدركه إلا ذوو الكرامات، وستكون هناك ثقوب بين السحب السوداء يرى منها ضعاف البصيرة بعض الحجر الذي يسد الطريق، وسيسيرون نحو آمال مؤجلة تُرتجى".
حتى ذلك الحين سيظل القول مفيدا لمرضى الربو الانفعالي، يستعيضون به عن التببغ والخمر والسباب بعد منتصف الليل، لكن زمني لم يعد في الأزمنة، لقد انتهيت. كنت أحد الحالمين، حلمت ذات يوم بكل شيء ممكن ولم أنو شرا بأحد، وقد كان الحلم دائما وقود الأرض التي تدور وكان أيضا رجاء الواهمين. قُلت سآخذ من زمني ما استحق وأعطيه ما يريد وكنت مستعدا، كنت قويا مثل حصان جامح ،  لازلت قويا لكني لم أعد أحلم، لم يعد عندي بالون لأنفخه، أحدهم كان يملك شوكة تافهة، وقد ثقب بالوني.    

دائرة الجمال



الدائرة أكمل الأشكال هندسية. 
-فيثاغورس



بطريقة عفوية وفي بعض الأحيان، أجد الأشياء الواقفة على عتبة القبح جذابة جدا، ذلك الجمال
القاسي بالغ الجاذبية المفرط في التوحش.
كهؤلاء المرتمين في احضان الضعف أقوياء بشكل حقيقي، ذلك الضعف الدرامي المثير.
حاولت عبثا أن أمسك مقياس التدرج الجمالي معكوساً، محاولاً تأمل الجمال في الأشياء القبيحة، وتأمل القبح في الأشياء الجميلة، استشفاف القوة في الضعف والعكس. 
مثل تلمس النشوة في رائحة عطنة، تذوق الحلاوة في شراب مُر، تحسس اللذة في الألم الشديد، استشعار البهجة في فزع خالص، وهكذا إلى إلى آخر درجة في مقياس الجمال معكوسا. 
لا يكتمل الجمال إلا باقليل من القبح، أن يبدو الوجه منحرفاً قليلاً غير منضبط السيمترية،القليل من عدم المثالية، القليل من عدم الإتزان بمثابة العلامة المميزة التي تمنح الشخصية الجمال، وتعدمه، بخلاف الجمال الأفلاطوني المثالي النيتشوي، ومن الممتع أن أحاول التحرك في الاتجاه الآخر حتى تكتمل الدائرة. 

في علاقاتنا الإنسانية تكتمل الدائرة بالضد والنقيد: أن تستشعر الصداقة الوطيدة في عداوة بغيضة، أن تتلمس وتفهم التدليل والألفة في سُبة فجّة، أن ترى الحب العارم في الكره البين، أن تستشعر عمق التواصل في الصمت التام، أن تحس الاهتمام الحقيقي مختبئاً بين طيات التجاهل المتعمد، أن تدرك مدى الهشاشة في شخص يلوح زاعقاً بقوة شخصيته، رؤية التعاسة في صورة زفاف، وبقية الأشياء التي ليست دائماً كما تبدو.

الجمال الذي تقدمه لنا المؤسسات الرسمية وتصدره إلى العامة باعتباره جمالاً أحياناً ما يكون قبحاً بالغاً، مفهوم "الجمال الأمريكي" بمقاييسها الفادحة الفاقعة: الفتاة الشقراء نجمة فريق التشجيع بالمدرسة، التي تتحدث عن الجنس بحيوية وخبرة امرأة في الثلاثين، وتلقي حولها الإيحاءات الجنسية طوال الوقت، هي في الحقيقة عذراء كما كشفت عن نفسها في آخر الفيلم.

أسرة -تبدو- سعيدة تسكن في ضاحية من الضواحي  ويتناول أفرادها العشاء على أنغام الموسيقى؛ تتكون من زوجين غارقان في التعاسة ولهم ابنة منطوية، وبينما يمارس الزّوج  كيفن سبايسي العادة السريّة غارقاً في فانتازيا وهميّة مبهجة مع صديقة ابنته ذات الجمال الأشقر المؤسّسي الفاقع؛ تنزلق زوجته  آنيت بانيه إلى علاقة، مع رجل تظهر صورته في إعلانات على جنبات الحافلات العامة، يتحدث عشيق الزوجة كثيراً عن "ضرورة أن يعكس الشخص الناجح صورة النجاح" في تأكيد حاسم على براعة الصورة البرّاقة في مداراة كل الخيبات وكل الإحباطات. بالحديث عن الجمال الأفلاطوني المثالي النيتشوي المتفجر،  وبحسب المعايير الأرسطية، فاعتلال الجسد وعدم استوائه  يؤديان الى اختلال في النفسيّة، و في الرؤية الخيرية للحياة. هذا في حد ذاته صحيح، لكن ليس دائماً صحيحاً. من السهل أن نقول إن الوسيم صحيح الجسد شخص سويّ النفسية؛ إلا أنه أحياناً ما يكون الجميل شخصاً مهدما مخبولاً، جماله الفائق يجر عليه التعاسة طوال حياته، في عالم قبيح يضغط عليه ويشعره بالاغتراب، وبالرغبة في الانكفاء على الذات، ثم السقوط في وحل التدمير الذاتي، أو تعجّل الانتحار: مرلين مونرو، جيمس دين، جيم موريسون، داليدا. على الطرف الآخر من مقياس الجمال  والقوة؛ يبدو لي شخصاً مثل ستيفن هوكنج المشوّه أو نيتشه معتل الصحة، في جوهره خارق حقيقي.

 معظم من شاهدوا فيلم الجمال الأميركي كان مشمئزاً من آنجيلا الفتاة الشقراء المصطنعة، قليلون من تعاطفوا معها لإدراكهم مأساة الوحدة والخواء العاطفي الذي تحياه، دافعاً إياها إلى ملء فاها بالأكاذيب وخلق حياة وهمية عن حياة جنسية حافلة. رحلة الفتى والفتاة المراهقين لاستكشاف الجمال في هذا العالم، متوّجة بالجمال في جلال الصمت نحو الموت لحظة أن تمر أمامهما سيارات سوداء جنائزيّة صامتة. يتقنّع الابن في تجارة المخدّرات، التي ينظر إليها الفيلم باعتبارها بيزنس كأي نشاط اقتصادي آخر له زبائنه وفوائده الممتعة؛ و جزءاً لا يتجزّأ من فكرة الحريّة، بينما يبدو الأب؛ نموذج عسكري صارم؛ آية في القبح والقهر والقمع والشناعة، ورمزاً للحروب الأميركية؛ و للعدوان على الأبرياء حتى ولو كانوا فلذات الأكباد، لا همّ له إلا التجسس على ابنه واستلاب حريّته وتدمير شخصيته، إلى درجة تتبع قطرات بوله وتحليلها دوريّاً للتأكد من أنه لا يتعاطى المخدرات، مرتكزاً على سلطويته و فوقيته بدعوى نبل الغاية ومعرفته المطلقة بصالح الابن، رجل العسكرية المنضبط الذي يعنف ابنه طوال الوقت هلعاً من انزلاقه إلى المخدرات والمثلية الجنسية؛ هو في حقيقة الأمر مثلي التوجه، هش واهن كطفل يتيم يتوق إلى بعض العطف.

 من هنا نتلمس كيف يكون القمع الشديد أسرع الطرق إلى الحرية، أن الفاشيّة العمياء تأكل نفسها و تعجل بظهور الديمقراطية، أن الحكم الديني هو أسرع الطرق إلى العلمانية، أن السُلطة حين تحكم قبضتها الخانقة على الرعية فإنها تؤدي إلى نمو آليات ضدية خفية تختمر تحت السطح؛ حتى تحين لحظة الانفجار أو الثورة فتقوم بالتمرد على السلطة، وإزاحتها من الطريق، القمع السلطوي السطحي الذي قام به الأب على الابن خوفاً عليه من تعاطي المخدرات حول الابن إلى تاجر مخدرات كبير تحت السطح، التجارة التي يقدمها الفيلم باعتبارها بيزنساً إيجابياً و نشاطاً مبهجاً. الفيلم إدانة لمؤسسة الأسرة؛ والمؤسسة العسكرية؛ و المؤسسة الجمالية، و للفكر المؤسسي ككل ذي المعايير الثابتة والنسق القيمي والقوالب المتعارف عليها.



"كانت أحد تلك الأيام، التي يتوقع فيها هطول الثلج في أي لحظة، وكانت هناك هذه الكهرباء في الجو، نستطيعين تقريبا سماعها، صحيح؟!، وكان هذا الكيس البلاستيكي، يرقص معي، كطفل صغير يتوسل إلي أن العب معه، لمدة خمسة عشر دقيقة. 
ذالك هو اليوم الذي أدركت فيه وجود حياة كامله خلف كل شيء، وهذه القوة الخيّرة التي تخبرني بأنه لا يوجد أي سبب للخوف، أبداً. الفيديو يساعدني على ان اتذكر،  أحتاج أن اتذكر! انه يوجد أحياناً الكثير من الجمال في العالم، أشعر اني لا استطيع تحمل ذلك، وأن قلبي سينهار".


تلك الفوضى الموجودة في لقطة فيديو عفوية لكيس بلاستيكي يحركه الهواء بحرية و عشوائية، يعتبرها الفتى أجمل اللقطات التي صورها مطلقاً، الفيلم يقدّم هذه الفوضى باعتبارها الخلاص من رتابة العالم وروتينيّته الكريهة وزيفه المصطنع والمفتعل. في عالم فوضوي كهذا؛ يتخلّى  كيفن سبايسي عن وظيفته البرّاقة في سبيل العمل بمطعم، يقلي الهامبرجر بأقل قدر من المسئوليات، ليفسح لنفسه مجالاً أرحب للتأمل فيما يريده حقاً من مُتع في هذه الحياة. أما نهاية الدراما الغامضة فتشير إلى ضبابية الحقيقة واستغلاقها على الإنسان، أن الحقيقة الواحدة، حتى ولو كانت فيزيائية خالصة –صوت الرّصاصة/الموت- تختلف مستويات إدراكها باختلاف متلقّيها. ينتهي الفيلم بأغنية  البيتلز "لأن العالم مستدير، فهو مثير". كما يكتمل يكتمل الحمل بالميلاد، ويكتمل النهار بالمساء، ويكتمل العقل بالجنون، ويكتمل النظام بالفوضوية، و تكتمل الحياة بالموت، و تكتمل القوة بالضعف، يكتمل الجمال بالقبح كما يكتمل الكمال بالنقص. 




الجمعة، 19 أبريل 2013

أنا و هُم



 تستيقظ مع أنك لم تنم قط رأسك المعلقة كرجل شنقوه للتو،  رموه في حفرة مع بقية الجُندِ الذين تفتت جثتهم وهم ينتظرون دفنا يليق بهم.

وجهك كشجرة الخروب لا فرح فيها ولا رائحة، تشرب فنجانك وتدس الكثير من الكافيين حتى تستعد لكارثة أخرى تدعى يوما جديدا، تشربُ من رئتيك لأن فمك من يوم ما أقلعت عن الحديث وهو مقيد بخيوط سلكية حادة، يداك تمتد إلى قطعة الخبز وتخبو فيك العضلة، أنت لا تريد أن تفطر لا تريد أن تتقمص الدور الطبيعي أيها اللاطبيعي، تنظر لساعتك التي بقي ظلها على معصمك منذ وُلدتَ، لايزال الوقت باكرًا  -هكذا تقول دوما-  مع أن الوقت دوما متأخر عن كل شيء، و أنت لا تفهم، لا تفهم لا تفهم. 

تبحثُ عن أقراص آلام الرأس، تلك الآلام التي أصبحت أكثر التصاقا بك منذ كشفت غطاء المستور، منذ حلفت أن تنخر روحك لكل عيب ستعلقه على النوافذ دون أن تخجل أو تتقلد مكارم الأدب.

صباحك هذا كأي صباح، تنظر لأمك التي ترى أنك نشيط أكثر من اللازم، تتماهى في أشغالها المطبخية دون أن تقول لك صباح الخير ، لأنها تعلم -جليا- أنك كائن متشائم، إخوتك المسافرين كل إلى مكان، منهم من أدار محرك سيارته دون أن يوجه لك دعوة لأنه يعلم -مسبقًا- أنك كائن كئيب، فيأخذ مقوده إلى مكان بحري، تعلم أنك لن تستمتع فيه لأن الناس لن تتواجد هناك سوى لإلقاء نكات سيئة الطعم، أنت لا تحب النكات ومع ذلك وجهك وجه بهلوان قاتل، تتسبب في الفوضى و في انتكاسة كل شيء أخضر. 

أنت الذي عوض أن تبتسم في وجه الفلاشاتِ التي أديرت من حولك احتفاء برجوازيا، نفخت شدقيك بالبرود،  ووضعت نظارتك إمعانًا في تقليد أي شخص يعتقد أنه صاحب رسالة شريفة، مع أنه ضاجعها كل ما سنحت له الشيم العرجاء بذلك ، " نكدت " عليهم الليلة الله ينكد عليك، ولأنك منذ بدأت تحاور الأشباح على الأحياء، قطعوا أهلك الصلة بك كليا، بل إنهم كثيرًا ما يطرقون باب غرفتك -فقط- ليتأكدوا أنك لم ترتكب حماقة ما، كأن تعتقل إحدى أفكارك و تجلدها إلى أن تتحول الغرفة لمائدة من الجياع و الدماء و الأشلاءِ و القناني المتأكسدة بالإنفجار. 


و تكتب: كأن الكتابة ستهرب، وكأنك تهتم كثيرًا لهذا الأمر، وكأنك لازلت تختم الحروف بعبارة ضخمة و منتفخة، و كأنك قادر على أن تقول للعالم أنظروا إني لا أخشى أن أقدم لكم عريَ افكاري وأدعوكم لأن تتقرفصوا إلى أن أقطع الخيط الشرفي لحفظ ماءِ الرزانة، أنت الذي لا تعلم كيف تستقطب سوى الأعداء، لم تصلح يومًا لأن تحتفظ بصديق، ليس لأنك سيء و لكن لأن طعمك يشبه طعم بيضة فقست قبل الآوان و تجلط ماؤها و أصبح غورًا، لا أنت أمسيتَ كتكوتاً ولا أنت دنوت لتصبح ديكا و لا أنت حتى علمت من أنت.


لتقول لنفسك بتعجرف :
.You selfish bitch; I hope you fucking burn in hell for this shit 

و كل الشياطين من حولك تقول : آمين.
و تبتسم بعد كل ما قلته أعلاه.!