الجمعة، 23 أغسطس 2013

سفر الوحدة

كل من حولك غرقوا في الثرثرة الجالبة للتثاؤب والملل، وأنت وحدك من توحدت مع اللحظة، لحظة الاكتشاف، فوحدك فقط من تعرفك جيداً، أنت من تعرف أين تركت المقص في المرة الأخيرة، أين ألقيت الكتاب الذي كنت تقرأه مؤخراً، أين رميت جوربك المتسخ بعد عودتك منهكاً من الخارج. وحدك من ستستحم دون الحاجة لغلق باب الحمام. من ستصون خيالك وأنت ترسم لوحة لن يرها غيرك. سـتَألف شرودك، ويتحول جنونك إلى صديق حميم يعرف هو ايضاً أنه صديق حميم؛ فيجيب أسئلتك بانكشاف قاتل قتلاً رحيماً. وحدك لن تعيبك النظرات اللائمة إذا ما تذكرت ميلودراميتك، حينها ستصير مضحكة بعض الشيء. ستجيد الاحتفاء بتفاصيلك الخاصة فيصبح نومك احتفالاً يومياً مُفاجئاً، وحدك ستعيد اكتشاف العالم مرة أخرى وتتسع حدقاتك؛ فأنت الان تعرف أكثر، وإذا لم تندهش لا تجزع كثيراً، فأنت تعرف بدقة أين تركت المقص في المرة الأخيرة.




 حينما يدفعني الوجود لأكون برفقة نظرائي من البشر، فإن إحساسي بالوحدة يصبح مضاعفاً. عندما انخرط في حوار مع أحدهم يتولد لدي شعور بالأسى على كوني لا أعيش في الصحراء أو كوني لا أتمتع بسكون الجمادات. حضور الآخرين غالباً لا يخلق من حولي إلا الفراغ والإحساس بالتفاهة المطلقة. هم يحبون المال ويتعلقون بالمجد ويقدسون التَسلُّط، وأنا اكره المال وأزدري المجد وأتفادى كل أشكال السلطة. لا يمكنني أبداً أن أحب المال، فتحصيل آخر جنيه يتطلب حد أدنى من العهر والتزلف. وأما بالنسبة للمجد والسلطة، فإنني لم ارغب يوماً في أن أكون الرجل الأول في أي تجمع ديني أو سياسي؛ فلكي يكون المرء نبياً أو زعيماً سيتطلب منه ذلك الكثير من الغرور وجنون العظمة. ولكي يحكم رجل جماعة من عشر رجال لابد له من أن يضع رؤوس ثلاثة منهم تحت المقصلة أولاً.

 -كيف تعرف بأنك على حق؟!
 -المعيار بسيط للغاية: عندما تتعارض شكوكك وهواجسك مع يقينيات القطيع. والحقيقة لم تكن أبداً ظاهرة جماهيرية، كما أن العوام لا يستسيغون إلا ما هو مبتذل وسطحي ورخيص. وإذا كان هناك من شيء أتحسر عليه فهو تلك الساعات التي قضيتها برفقة نظرائي من البشر؛ لو حدث أنني كنت قد كرست كل تلك الساعات للاستبطان والتأمل لكنت الآن اقرب إلى الحقيقة أكثر من أي وقت مضى.

 كل امرئ يولد ويُقدَّم على طبق من الطهارة والبراءة، لكن الخوف والذعر من الوحدة والضجر يدفعان المرء دائماً إلى الارتماء في أحضان الجموع، والنتيجة هي فقدان البراءة الأصلية، مع ما يتبعه من فساد وتورط بفعل طفح الآخرين عليه. لم يسبق لي أبداً أن التقيت بإنسان يتحمل عزلته؛ فالكل يفعل المستحيل للالتحاق بأي مجمع بشري ما. قد يكون هذا المجمع شلة من الأصدقاء، أو حزباً سياسياً، أو طائفة دينية، أو حتى عصابة إجرامية. في الواقع؛ على المرء ألا يكرس وقته لشيء آخر غير ذاته، فالواحد منا لا يدخل في حوار عميق مع الحقيقة إلا عندما يكون بمنأى عن صخب العالم وضجيج العوام وزحامهم.



 لا تتجلى لي الدلالة الحقيقية للأشياء إلا عندما أكون خارج دائرة الوجود البشري. عندما أكون في جولة مسائية على أحد الشواطئ، أو أمشي بلا هدف في أرض جرداء؛ ابدأ في مراجعة كل القيم البشرية واحدة تلو الأخرى: كل ما هو عظيم في أعين القطيع يغدو تافهاً وسطحياً أمام الصمت الأبدي للصخور والحركة التلقائية للموج. وكلما فكرت في وضعي بين الأشياء، في تصوراتي للعالم، وفي الأحكام التي قد يطلقها عليّ الآخرون، أقول لنفسي: فيما تهمني استقامة هذا العالم أو اعوجاجه؟! ولماذا يجب أن أكثرت لأراء البشر في كل حال؟! إذا كانوا ينظرون إلي كعدمي أو كمجذِّف مهرطق، فما الذي ستغيره أحكامهم تلك؟! أوليس كل شيء يأخذ مساره المحتوم؟! وهذه الشجرة الواقفة هناك منذ عقود، ما الذي يمكن أن يجمعها ببني البشر وأحكامهم القيمية؟! وهذه الصخور المتكئة هنا منذ ملايين السنين، فيماذا يمكن أن تهمها قيم المجد والنجاح؟! في الحقيقة، لا وجود للحكمة إلا بجوار الجمادات، صمتها السرمدي وموقفها اللا-إكثراتي من حركة العالم يفضحان بلبلة المدن وذعرها اللامعقول، ويظهران ضجيج المجتمعات كضجيج مجاني ومن أجل لا شيء.



 يقولون لنا بأن الإنسان حيوان اجتماعي، ولكن لا يعتبر هذا صحيحاً إلا على مستوى السطح فقط، أما في العمق فالإنسان حيوان وحيد، فكل واحد منا هو في حد ذاته كيان مغلق يسكن هذا العالم؛ كحبة رمل على شاطئ كوني لا احد يعرف أين يبدأ ولا أين ينتهي. وهذا بالفعل هو الشعور الأصيل بالوحدة، والذي يتمثل في الإحساس بالعزلة المزدوجة للكائن. عزلة الإنسان في العالم وعزلة العالم في الكون وعزلة الكون في الميتا-أكوان.

 فيما يخصني، لا يمكنني إلا أن أقول بأن حياتي كانت تطبعها الوحدة منذ البداية؛ فمنذ اليوم الأول الذي اكتسبت فيه وعيي بذاتي وأنا أحس بأنه ثمة هوة سحيقة تفصل بيني وبين العالم، لم أكن أرى في المجتمع من حولي إلا مملكة من الغرباء. حتى أبي لم أكن أرى فيه إلا غريباً لابد منه. وباختصار، كان الوجود في مجموعه يمثل بالنسبة إلي بنية في الوحشة والغموض. لقد كان لقائي منذ البداية مع الوجود صعباً، ملغزاً، غريباً، محفوفاً بالمخاطر. وفي الحقيقة ليس ثمة أي شيء فلسفي بخصوص انطباعاتي هذه؛ فهي لم تنبثق لا عن تأمل ولا عن تفكر، بل كل ذلك كان نتيجة لشعور واحد فقط: الوحدة. وحدة كائن مايكروسكوبي أمام الامتدادات المطلقة للكوزموس.

 المجتمع زنزانة لا مفر منها والوحدة المطلقة تقتل. لذلك يجب أن نكون عمليين: أي أن يضع الشخص رأسه في هذه ويديه في تلك. نحن نجتمع لتوفير الغذاء والكساء وضروريات البقاء بيولوجياً، ولكننا ننعزل ونتوحد حتى نتمكن من الإنصات لأصوت ذواتنا. وإن كان هذا التباين يكشف عن شيء، فإنما يكشف عن أن الاجتماع ينبثق عن ميول قطيعية بحتة، بينما العزلة والتوحد سلوك نخبوي بامتياز. وفي الحقيقة، لست أبالغ إن قلت بأنه لا داعي أن يتكبد احدنا عناء خلق جسور للتواصل مع المجتمع؛ فهذا الأخير لا يحكمه إلا منطق المنفعة الشخصية ويحركه جين أناني، إنه أشبه بسوق مؤقتة أو مخيم للاجئين.

 ليست الوحدة في أحد أوجهها إلا تلك الضريبة التي ندفعها ثمناً لرفضناً الانغماس في هذا التآمر المتبادل الذي يسمى بالمجتمع. يمكنني أن أقول بأنه باستثناء بعض الأشخاص، الذين يمكن أن أعدّهم على رؤوس أصابع اليد الواحدة، لا تفعل البقية من البشر شيئاً آخر سوى تعميق شعوري بالغربة، لم يحصل أبداً أن شعرت بالوحدة القاتلة مثلما كنت اشعر بها عندما أكون في صالون ما أو عندما أدعى إلى حفلة أحدهم. وباستثناء الهرولة بين سطور الكتب وبعض الموسيقى، لم أكن أجد في هذا العالم من وسيلة أخرى للتخفيف من وحدتي إلا تلك الحوارات التي كنت أجريها من حين لآخر مع حفنة من المتفلسفين ورعاة الغنم. والحق أن الحياة لا تصبح محتملة إلا بالقرب من التوقد الذهني لهؤلاء والصفاء الروحي لأولئك.

 كان يحدث لي أحيانا أنني كنت أنزوي منعزلاً لأيام وأيام في غرفتي، اقضي وقتي منغمساً في كتاب ما أو متوحداً مع مقطوعة موسيقية، وعندما كنت انزل إلى شوارع المدينة كانت أول رغبة تستهويني هي أن ألوي راجعاً إلى حجرتي وانغمس في عزلتي من جديد، بل و على نحو أعمق. العالم الخارجي تافه، فبدلاً من أن يضع عنك أعبائك، تجده يعرض عليك أعباء أخرى؛ وفي كل مرة كان يقترب مني أحدهم كنت، وحتى احمي نفسي من سخافاته، ألجأ على الفور إلى إستراتيجية القنفذ وانطوي على نفسي بالكامل وأغلق كل المنافذ.

 عندما يتعلق الأمر بكل ما هو جوهري وروحي، لا يكون لدى العالم الخارجي أي شيء يقدمه لنا، إنه عالم يعج بالأوهام والمهرجين الذين يتراقصون على أحبال النفاق مرة وتارة أخرى على أحبال التجمل؛ ولذلك يكون من الجيد أن ينسحب منه المرء كلما سنحت له الفرصة و على قدر ما يستطيع. كل واحد منا يحلم بأن يقوم ذات يوم بجولة حول العالم، ولكن أليس العالم الحقيقي هو هذا العالم الجواني المتواري خلف جدار النفس؟! فعندما يتقادم الوجود في عيني المرء وتفقد كل مباهج الحياة بريقها، وتصبح كل الميول والملذات أشياء مبتذلة ومستهلكة، ألا يكون من الأجدى للمرء أن يحوِّل نظره عن الآخرين حتى يرى نفسه؛ وأن يتنحى جانباً على هامش الوجود حتى يقترب من مركز ذاته؟! وحدها العزلة تمكّننا من لحظات ميتافيزيقية كهذه.

 لا شيء يثير الشفقة أكثر من الطريقة التي يعالج بها البشر وقوعهم في الوحدة؛ فعندما تكتسحهم هذه الأخيرة تجدهم ينتشرون في الأرض بحثاً عن وسيلة للهو، ولكن للهو ثمنه الباهظ الذي يتمثل في التلهي، أي التولي عن الذات والهروب من مواجهتها. والخوف من هذا التولي والهروب هو ما يرن في رأسي في كل مرة تهزني نزوة النزول إلى العالم والاجتماع بأشباهي من البشر. والحق أنه عندما يجد المرء نفسه متشوقاً للانغماس في العالم أو الالتحاق بالآخرين، فإنما يثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن العالم أكبر منه، وبأنه هو والآخرين من نفس الطينة. ذلك أن معظم مآسي البشر تأتي من أنه لا احد يعرف كيف ينزوي في غرفته ويتحمل وحدته.



 كل تجربة عميقة نمر بها هي في جوهرها تجربة دينية، وبالرغم من أن أخصّائيي التحليل النفسي لا ينفكون يختزلون مشكلة الوحدة في تعقيدات لا شعورية أو أعطاب في العلاقات الاجتماعية، إلا أن الوحدة في عمقها هي أكثر من كونها كذلك، إنها مشكلة يتداخل فيها الديني بالمرضي، والوجودي بالميتافيزيقي. ويمكنني أن أقول بأن الإحساس بالوحدة أو الإقدام على الانسحاب من ضجة المجتمع لا ينبثق إلا عن حدس ديني عميق مفاده أن هذا العالم عالم غير مُقِْنع وغير عقلاني.
 يُحسد المؤمن على ذلك الإمتياز الميتافيزيقي الذي تتمتع به الصلاة، والذي يتمثل في قدرته على أن يتخلص من كل أعبائه عبر تعليقها على مشجب إله ما! عندما ينسحق تحت عجلات الواقع غير المبالية وتصد في وجهه كل الأبواب، لا يجد المؤمن من مخرج نهائي لأزمته أفضل من الصلاة؛ حسبه فقط أن يجثو على ركبتيه وأن يرفع كفوف الضراعة إلى إله ما. حتى الوثني يمتلك نفس هذا الامتياز في أن يعرض مآسيه على مطلق ما، ولا يهم أن يكون هذا المطلق من الحجر أو الشجر؛ إنه كائن حزين، وهذا كاف لوحده بأن يجعله متديناً.
 في العمق، نحن لا نصلي لأننا مؤمنون، بل لأننا متعبون ونريد أن نستريح؛ فالرغبة في طرح أثقال الحياة عن كاهلنا هي ما يبرر وجود الصلاة؛ والتي لولا الطابع العبودي للوجود لما كان لها من معنى. أي شخص يعيش في رغد لا يمكنه أبداً أن يستوعب مغزى الصلاة؛ وما الذي سيدفعه إليها ما دام لا يرزح تحت أي عبئ. وحدهم المثقلون بالأحزان والمثخنون بالجراح من يملأون المساجد والكنائس ويترددون على المعابد. كلما ضاقت بالمرء الحياة وهزمته تدابير الأيام سيجد نفسه على حافة الصلاة، حتى وإن كان ملحداً؛ فالصلاة ليست فعلا تعبدياً إلا في المظهر، أما في العمق فهي ممارسة طبية، ترياق ضد سموم الحياة. فعندما ينخرط المرء في الصلاة يخفف عنه بذلك قسوة القدر ومرارة الفشل؛ كما أن الطابع الحواري للصلاة، أي تجليها كحوار بين الإنسان والإله، يوحي للمرء بأنه ليس وحيداً في الكون.


الاثنين، 5 أغسطس 2013

سرير بروكوست


تقول الأسطورة الإغريقية أنه كان هناك مجرم وقاطع طريق يدعى "بروكوست" يملك سريراً، كان يصيد الأشخاص ويأمرهم بالنوم على السرير فإذا كان الشخص طوله مناسب لطول السرير نجا، وإن كان أقصر من طول السرير يقوم بروكوست بتمديد وشد ساقيه كي يتناسب مع طول السرير، وإن كان أطول من السرير يقوم بروكوست بقطع أطرافه ليلائم طول السرير.

 معظم الأفكار في حد ذاتها هي ضرب من الخيال أو التجريد أو على الأقل يجب أن تبقى كذلك. لكن الإنسان عندما يقع تحت إغراء وغواية فكرة ما، تجده يغذيها بكل مشاعره وأحاسيسه، ويسخِّر لها كل طاقاته البلاغية والشعرية، فيحولها على إثر ذلك من كونها مجرد انطباع إلى جنون ميتافيزيقي متكامل تقام له المعاهد والمعابد، وتحميه مراكز المخابرات والشرطة. والحق أن الإنسان كائن وثني بطبيعته؛ فهو لا ينفك يؤله أي شيء يخرج من بين يديه، حتى وإن تشدق بعلمانيته فإن هذا الإنسان لا ينقطع البتة مع ميوله التأليهية. عشقه للأحلام والأساطير يدفعه دائماً إلى إضفاء صفة الإطلاق والألوهية على أي شيء يحظى باهتمامه ويدغدغ إعجابه، بل يمكن القول بأن هذا العشق هو المحرك الحقيقي للتاريخ الذي بدوره ليس سوى تعاقباً زمنياً لمختلف أنماط التأليه والوثنية. ميل الإنسان إلى عبادة أشيائه وأفكاره هو المسؤول عن كل الجرائم التي وقعت على مر التاريخ، فمن يعبد عجلاً أو إلهاً ما يدعو الآخرين إلى عبادته أيضاً، ومن يرفض الانصياع لدعوته، ما عليه إلا أن يستعد لمواجهة حرب مقدسة قادمة. هكذا هو الشخص المتطرف، إنه يتماهى مع عقيدته إلى الحد الذي لن يترك فيه أي مسافة بينه وبينها، بل إنه لا يكاد يرى أي شيء خارجها. بالنسبة له، ينقسم العالم إلى معسكرين: معسكر الإخوة في العقيدة ومعسكر الشيطان. دوجمائيته تطرد عنه كل شك وتجعله لا يتردد في قتل الآخرين أو في قتل نفسه، إنه في كلتا الحالتين إما مستبد وإما قتيل أو شهيد، إذن فهو خطير.

 كل عقيدة بطريقة أو بأخرى هي تمهيد ومقدمة على الورق لإرتكاب العنف والفظاعة. وإجراءات كالحرق أو الرجم أو قطع الرؤوس بالمقصلة لم نلجأ إليها لأننا وحشيون أو ظلاميون، بل لأننا وثوقيون. كل من يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة هو بالضرورة شخص اضطهادي وغير متسامح، وفي كل مرة يلتقي فيها تصوره بتصور آخر مضاد، يسيل الدم. ولأنه لا يقبل بالطابع النسبي للرؤى والأفكار، فإن ذلك يجعله يرى في التسامح والحوار ضرباً من التساهل والتهاون في إحقاق الحق وتأدية الواجب.

 المتطرفون هم محركو التاريخ، و كل شعب لا يرى في نفسه شعباً مختاراً لن يترك أبداً بصماته على أرضية التاريخ. هل يمكن تصور العصور الوسطى بدون حروب دينية أو محاكم تفتيش؟! وكيف كان للقرن العشرين أن يكون ممكناً بدون مجنون كهتلر أو ديكتاتور كستالين؟! لا تتسامح الشعوب فيما بينها إلا بسبب توازن الرعب، أما الأديان فلا يعترف بعضها بالبعض إلا بعدما ينهكها ويدميها العراك. والحق أن كل ديانة لا تقوم إلا على خراب ديانة أخرى. المسيحية مثلاً؛ لم تزدهر إلا على حساب الفلسفة اليونانية والوثنية الرومانية. عندما تتبنى دوجما ما دينية أو سياسية قيم الحب والسلام تنهار قواها على الفور، فبعدها الإنساني يولّد الانشقاقات الداخلية، ويسمح بتكاثر المرتدين والهراطقة، كما يعطي فرصة لاندساس الأعداء. مكيافيللي على حق: "ثمة أمان كثير في أن يخشاك الناس من أن يحبوك." إن النظم السياسية والدينية لا تستمر في الوجود إلا بقدر ما تفرز من الرعب والخشية، وما دامت تلجأ إلى الإقصاء والاضطهاد والعقاب وتحيط الجميع بدائرة ملؤها الشر واللاتسامح، فهذا دليل على أنها مازالت قوية. أما عندما تتبنى هذه النظم فلسفة الحوار وتسعى إلى بناء جسور التفاهم والصداقة مع العدو والمختلف، فإن ذلك إشعار ببداية عصر انحطاطها. إنها نفس القصة القديمة: كل إله وأيدولوجيا لا نُمَثلُ أو نُقتل من أجله فهو إله ميت أو بالأحرى هو إله يقع على الهامش بعيداً عن مجرى الأحداث.

 لكل عقيدة وأيديولجيا مقصلتها؛ وكلما كانت هذه الأيديولوجيا قوية كلما كانت وحشية. والأنظمة لا تفرض نفسها بالمنطق وقوة الحجة، بل بعدد الضحايا الذين تهشم رؤوسهم أو تحرقهم أو تزج بهم في السجون. إن الشراسة هي ما يمدد الطريق أمام كل أمة تتقدم في التاريخ. ولكن مراجعة دقيقة لهذا الأخير تؤكد بأن كل أحداثه لا تنبع إلا من تعصب البشر لقناعاتهم ومن التقدير المفرط الذي يولونه لنظمهم الدينية والسياسية. عندما أسمع أحدهم يتحدث عن "نهضة الأمة" أو "إحياء الماضي المجيد" أو يستعمل كلمة"نحن"، أبتعد عنه قدر ما أستطيع وأفر منه فرار المرء من الجذام. إنني لا أرى فيه إلا ديكتاتوراً مؤجَّلاً أو جلاداً ينتظر فرصته.

 في الواقع، عندما يفقد الإنسان مَلَكَة الشك كمقولة برتراند راسل: "أنا لست مستعداً أن أموت في سبيل أفكاري لأنها قد تتغير."، يقع في شباك أول إله أو شيطان يقابله على قارعة الطريق. الشعور بالضجر والرغبة في التشويق واستجلاب الشغف، الذي تفرزه أحداث التاريخ، يدفعان المرء إلى التحمس لأي فكرة قد تدغدغ أنانيته ونرجسيته، أو قد تنسيه محنة الحياة عبر الإيحاء له بعالم مثالي متواجد في الماضي أو سيتواجد مستقبلاً. وكلما اشتدت وطأة وضجر الحياة على المرء، كلما ازداد تعصبه للمبدأ الذي يؤمن به. لذلك لا يجب أبداً أن نبحث عن طريق للحوار مع كل شخص يؤلِّه عقيدته، إنه مأخوذ بجاذبية عوالم أخرى، إذن فهو لا يرى ولا يسمع وسيضع كل من يخالفه على سرير بروكوست.

 كل متطرف هو عابد صنم؛ تعصبه لفكرته يحوّلها إلى إله، ويحوله هو إلى قاتل ضمني، وفي الواقع لا توجد في التاريخ ولو مهزلة دامية واحدة لم ترتكب باسم إله ما. وإذا كان هذا الإله يسمى تارة بالحقيقة وتارة أخرى بالتنوير أو العدالة، فإن النتيجة تكون دائماً واحدة؛ خراب ودمار، أشلاء ودماء. شخصياً أشعر بالأمان أمام مسئول حكومي فاسد أكثر منه بالقرب من شخص يتعصب لمبدأ ما، بل أرى بأنه لكي يكتسب المرء مناعة ضد داء التطرف وأمراض الحياة، عليه أن يفتح بين الحين والآخر كتب السوفسطائيين وممتهينين الكلام؛ فهم على الأقل كانوا صريحين مع أنفسهم ومع الآخرين، لم يكونوا يدرِّسون "الحكمة" إلا من أجل جني المال. و أما الحقيقة فلم تكن تعني لهم إلا بناءا من الدهاء والصور مسرفة البلاغة. و ماذا عن الفضيلة؟! إنها ليست من تخصصهم؛ يجدر بك أن تبحث عنها في يوتوبيا أفلاطون أو تلميذه أرسطو.

الجمعة، 2 أغسطس 2013

الكائن الأكثر تطرفاً

الإنسان هو أحد أخطاء الطبيعة. هذه قناعة ربما توصلت إليها حينما كنت أتسكع مع صديق لي في أحد السهوب المجاورة للقرية التي وُلدَ بها أجدادنا؛ ونحن نتبادل أطراف الحديث، أشار صديقي إلى واقع أن مجموعة من الأنواع الحيوانية، التي كانت تعيش هنا في يوم ما، قد انقرضت ولم يعد لها أي أثر. وتعليقاً على ملاحظة صديقي، قلت له بأن كل ما يتحرك تحت ضوء الشمس سيختفي إلى غير رجعة، وسيأتي يوم سنتحدث فيه عن انقراض آخر ذبابة؛ فالإنسان حيوان مبدِد مبيد ولديه نزعة مَرضية لجعل هذا العالم عالما قبيحا. فهو لا يقطف إلا ما هو أخاذ وجميل، و لا يترك إلا ما هو شائك وقبيح، خالقاً بذلك وجوداً لا بقاء فيه إلا لما هو ضارب في السوء والبشاعة.

 كل المخلوقات تعيش في انسجام تام مع الطبيعة باستثناء الإنسان وحده. فعلى مَر التاريخ أثبت هذا الكائن بأنه الأكثر تطرفاً، حيوان شاذ ولا يملك موقعاً مريحاً بين جموع الخلائق. إنه لا يكف؛ في أي نشاط من نشاطاته، عن التلويث وتشبيع الأجواء بشتى أنواع السموم والغبار. إذا جلست أمام الشاشة الفضية-شاشة تأخذك إلى جهنم-أو فتحت جريدة لن تجد إلا ذلك التغني شديد الابتذال بالحضارة الصناعية والتقدم في صراع التكنولوجيا؛ وأنا أتساءل هنا، بأي حضارة وبأي تقدم هذا الذي يمكننا التغني به ونحن لم يعد بإمكاننا ملء بالونات صدورنا إلا بالغبار!، إنني لا أكاد أرى أي خير في كل هذه القرون التي قضاها الإنسان في التصنيع والتركيب. فإذا ما رغب أحدنا في رؤية زهرة برية، فعليه أن يتحمل مشقة الخروج من العمارة التي يقطنها لمسافة سبعين كيلومترا أو أكثر؛ أما إذا كان يرغب في مشاهدة قنفذ أو أرنب فعليه أن يتوجه إلى محبس الحيوانات.

 إثر كل ذهاب أقوم به لمتحف أو حديقة حيوانات أستنتج بأن قسوة الإنسان لا يحدها شيء. كل هذه الأسود والغزلان والتماسيح والطيور التي أراها الآن؛ كانت تعيش حرة طليقة لملايين السنين، إلى أن جاء هذا الإنسان فطاردها بكل السُبل، وجعل من كل نوع منها إما مصدراً لطعامه، أو مادة لكسوته، أو وسيلة لتسليته هو ونسله. لقد لاحق الإنسان هذه المخلوقات في كل منحنيات الأرض، وما وُجد عرين أو غار أو جحر إلا ووصل إليه. ولمَّا رأى هذا الإنسان بأن ما بقي من هذه المخلوقات يسير نحو الانقراض، وذلك بسبب ما ألحقه بها من أبشع الأنواع قتلاً وتنكيلاً، وضعها في أقفاص كئيبة تتغذى على أطعمة فاسدة ويتفرج عليها الفضوليون ومطاردو وسائل التسلية. أفهم جيداً أن يفترس حيوان ما حيوانا آخر، و لكنني لا أستطيع أن استوعب كيف يمكن لحيوان أن يجعل من حيوان آخر موضوع فرجة أو احتقار أو إذلال!، وهذا بالضبط ما فعله الإنسان بباقي المخلوقات من حوله. ماذا أقول؟!، الإنسان بلا مبالغة هو ديكتاتور الحيوانات.

 لو كان باستطاعتي التحكم في دواليب الكون، لكنت قد مسحت الإنسان من على وجه الأرض. فمنذ البدء أثبت هذا الكائن بأنه لا يحسن إلاَّ الانفصال. لقد أمره إلهه بأن يلزم المكان المخصص له في الجنة، وحذَّره من أنه ثمة حدود لا يجب عليه أن يتجاوزها؛ ولكن الإنسان، وكعادته، يهوى تجاوز الحدود وخرق العهود فأكل من الشجرة المحرمة وكان ذلك أول إنفصال له، إنفصاله عن إلهه. ولكن إنفصالات الإنسان لا تنتهي؛ فها نحن نشهد اليوم وفي كل ساعة وحين انفصاله عن الطبيعة وذلك بسبب ما يلحقه بها من خراب ودمار إلى درجة أنه ارتفعت أصوات تطالب بكتابة عقد طبيعي مع الأرض. الإنسان كائن مرفوض، إنه لا ينفك يُطرد من فردوس تلو الآخر، إنه كائن غير مرغوب فيه.

 الإنسان حيوان يتمحور حول أناه، وعندما يطلق له العنان يتحول العالم إلى ورشة عمل للشيطان. هذا بالضبط ما فعلته أغلب الأنساق الماورائية التي عرفها تاريخنا والتي عملت على تكريس غرور الإنسان و صلافته. وقد كانت المسيحية أول ميتافيزيقا أنذرت نفسها لهذه المهمة حيث عملت على التبشير بأن الإنسان خُلق على صورة الله؛ وبأن هذا الأخير قد تجسد فعلاً، في يوم من الأيام، في صورة إنسان وعاش مع الإنسان ومات من أجل الإنسان. ثم جاءت الحركة الإنسية التي جعلت من الإنسان "مقياس كل شيء." وهكذا توالت الأوهام بين ميتافيزيقا تقول بأن الإنسان طيب في عمقه، وأخرى تقول بأنه خليفة الله في أرضه، وثالثة تقول لك "دعه يعمل، دعه يمر." والحق أنه مهما اختلفت هذه الأنساق الميتافيزيقية في مفاهيمها وزواياها، فإنها تلتقي عند النتيجة نفسها والتي تتمثل في أنها أنزلت الإنسان منزلة لا تتناسب وقدراته؛ بل ويمكنني القول بأن النجاح السياسي والهيمنة التاريخية لهذه الأنساق، بنوعيها أللائكي العلماني والثيولوجي المقدس، لا يعود إلى انسجام في مقولاتها ولا إلى قوة في أيديولوجياتها، ولا حتى إلى فكرة الجحيم أو فكرة الخلاص؛ بل نجاح كل ذلك يعود إلى شيء واحد، وهو أن هذه الأنساق قد تملقت الإنسان ودغدغت ميوله النرجسية وجعلت ذاته شديدة الانتفاخ.

 منذ أن وعى الإنسان وهو لا يطمح إلا لشيء واحد وهو احتلال مركز كل الأشياء. والحق أن كل البشر يتصرفون كما لو أنهم آلهة، فأنى توجهت فتجد آلهة بائسة أو أنبياء مقموعون، فيما هم مجرد حيوانات عليا يقتلون ويتقاتلون على ظهر هذا الكوكب السيء الحظ، والذي غالبا ما ينسون بأنه مجرد كرة معلقة في الفراغ الكوني المطلق. وحده داروين فهم ما يجري؛ لقد رأى في الإنسان مجرد قرد متطور يتربع، الآن، على قمة هرم المخلوقات. ولقد كان بإمكان هذا القرد الأعلى أن يعيش في سلام تام مع نفسه ومع الطبيعة، ولكنه حيوان مصاب بهوس التقدم؛ إنه لا يكاد يصل إلى وضع حضاري حتى تبدأ الرغبة تراوده في تجاوزه إلى وضع حضاري آخر. ومن إرادة التجاوز هذه وُلد الإنسان فتحول بذلك من كائن يعيش في الطبيعة إلى كائن يُنصِّب نفسه سيداً عليها. والحق أنه حيثما تولي وجهك لن ترى إلا هذا الكائن وهو يغزو كل شبر ويكدس الأموال ويستنزف ما يقابله.

 كل ما يصنعه الإنسان لا يلبث أن يرتدَ ضده. إنه لا يستفيد من أشيائه إلا مؤقتاً، أما على المدى البعيد فإن كل ما يخرج من بين يديه يصبح مصدر إزعاج أو خطر. لقد اخترع هذا الكائن السيارة ليختزل المسافات ويسابق الزمن، وها هي هذه السيارة قد أصبحت تشكِّل في مدنه عاملا يعرقل الحركة و مصدراً لشتى أنواع الضوضاء. لا أكاد استوعب كيف أنه بعد كل هذه القرون من الرياضيات العليا والميكانيكا المعقدة انتهى بنا الأمر إلى خلق حضارة مفادها الضجيج والقذارة. ولا اعرف أي تقدم هذا الذي أحرزناه وقد أصبح الواحد منا لا يعبر شارعاً ثانوياً إلا بعد أن تتوتر أعصابه ويتصبب عرقه؟، والحق أنه عندما أرى هذه الأجواء الملبَدة بالدخان وهذه الوحوش الحديدية التي تجوب شوارع مدننا وتدهس، من حين لآخر، بعض الأرواح البريئة، لا أتحسر إلاَّ على شيء واحد كوني لم أُوجد قبل الثورة الصناعية أو لم أُوجد من الأصل.

 مع كل صرخة وليد يزداد الشر قليلاً في العالم. وإذا كان هناك من شيء أتأسف لحاله فهو هذا الكوكب الأزرق الذي يحمل على ظهره هذه التخمة من بني البشر؛ والذين لا يختلفون عن بعضهم البعض إلا بقدر ما يفرز كل واحد منهم من الخراب والكارثة. لقد توصلت إلى قناعة مفادها أنه علينا أن نعمل على تكريس حركة إنسية معكوسة تتمثل في وضع حد لهذا الإنسان وتمريغ كبريائه في التراب. إنه لمن الضروري أن نُفهم هذا الكائن بأنه مجرد ترتيب حيوي في المنظومة الطبيعية للأشياء. وبأنه ملزم-إن أراد الاستمرار-بأن يتخلى عن أخلاق السوبرمان ويتبنى عوضاً عن ذلك، أخلاقاً مغايرة تستمد جوهرها من تواضع حشرات الأرض وعفوية العشب. على هذا الكائن أن يفهم بأنه ليس ابن السماء، بل ابن الأرض. والحق أنه رغم ما قد ينطوي عليه هذا الإذلال، الذي ندعو إليه، من مضاعفات جانبية، فإن مخاطره ستكون أقل بكثير من المخاطر التي قد تنجم عن تمجيد الإنسان أو عبادته؛ فالإنسان حيوان مغرور ومصاب بخيلاء لا علاج لها، على سبيل الطرافة، لفت صديقي نظري إلى التكوين المورفولوجي للحيوانات؛ فكلها تدب على ظهر الأرض إما زاحفة أو ماشية على أربع، حتى الديناصورات رغم ضخامتها وقوتها تبدو منحنية و محتشمة؛ لكن وحده الإنسان يملك وضعاً مورفولوجياً عمودياً، لقد بدأت المأساة لحظة استقامته.

 إذا كانت اليوتوبيا لاتزال تعني لي شيئاً، فإنها تعني أن تستولي قلة من المثقفين على الحكم في هذا العالم، فتؤسس بذلك دكتاتورية شمولية تقوم بالسهر على حماية الطبيعة ولجم اندفاعات الإنسان. والحق أنه أصبح من المُلح علينا، وأكثر من أي وقت مضى، بأن ندمر هذا العجل الذهبي الذي يعبده معاصرونا والذي يتمثل في مجتمع الوفرة، إننا ملزمون بأن نعود إلى قيمنا البدائية، وبأن يتم إرجاع مستويات العيش إلى ما كانت عليه في العصور الوسطى. كما انه من الضروري العمل على تحويل التناسل عند البشر من إمكان طبيعي مفتوح إلى إمتياز حضاري لا يمنح إلا للمتفوقين. فمن يطَّلع على المعدلات الديموغرافية لبني البشر، خاصةً تلك المتعلقة بالبؤساء والأغبياء منهم، لا يمكنه إلا أن يستنتج بأن الإنسان درن ينتشر.



 هذه الصورة ليست من مخيلة أحد مخرجي السينما المتشائمين، لكنها من أحدى مسيرات الإنسان السياسية، الأمر لا يعنيني سياسياَ أكثر منه أخلاقياً، هم يطالبون في مسيرتهم بحقهم في حكم وقيادة مجتمع بأكمله وفي الوقت نفسه يجرّون ورائهم مجموعة من الأطفال لا شيء في عقولهم سوى بعض المشاهد الكرتونية، يسيرون بهم بعد أن البسوهم أكفان وعباءات الموت كشيء رمزي للتضحية بحياتهم من أجل أيديولوجيا طوباوية تسببت قديماً في الخراب أكثر من أي شيء آخر متوهَم. من المفارقات شديدة السخرية أن من ينوي امتلاك دراجة بخارية تافهة يجب عليه الحصول على رخصة لقيادتها بعد اختباره والتأكد من أهليته للقيام بذلك، وهؤلاء السائرون لم يختبر أحد أهليتهم لإنجاب إنسان آخر على وجه الحياة، ولم يحاسبهم أحد أيضاً لتجدجينهم هؤلاء الاطفال ذوو العقول النيئة للمطالبة بأشياء لا يعلمون عنها شيئاً، ليصبح الإنسان مجرد مفرخة للقبح والتشيؤ دون حسيب أو رقيب. فلا سبيل الآن سوى الصراخ مع سيوران: "الولادة هي ما ينبغي بحثه إذا ما أردنا إستئصال الشر من جذوره".

 فيما يعنيني، لا أملك إلا أن أقول بأنني قد أقلعت عن الافتخار بانتمائي للنوع الإنساني؛ ذلك أنني نزلت إلى العمق الأخير لروح هذا الكائن فما وجدت إلا الأنانية والخبث وميول شيطانية أخرى. ولست أبالغ إن قلت بأنه لا يفتخر أحدنا بكونه إنساناً إلا إذا كان ساذجاً أو مثالياً طفولياً، أي إما جاهلاً بطبيعة الإنسان أو إنه لا يريد أن يرى سقوطه المدوي عبر كل الأزمنة والأمكنة. اليوم لم أعد أتعجب إلا لشيء واحد، وهو كيف يتحمل كل واحد منا لمدة سبعين أو ثمانين عاماً كل هذا العبء الذي يسمَّى بالإنسان؟!، ما من معنى آخر للحياة سوى أن ينسحق كل واحد منا، منذ البداية وإلى النهاية، تحت هذا العبء المتمثل في رغبات متضاربة، ومشاعر متوترة تنضوي كلها تحت اسم أو لقب مكلل بالتباهي مسرف في نرجسيته.

 لا شيء ينقص الإنسان المعاصر إلا الوعي بالزمن؛ ذلك أنه لو قام هذا الإنسان بتأمل الامتداد الزمني لمَ قبل وجوده وما بعده، لكان بإمكانه أن يرى حجم العدم الذي يتوارى خلفه أو ينبسط أمامه. وربما كان بإمكانه أيضاً أن يستخلص من ذلك بأن وجوده ليس سوى صرخة خاطفة في فضاء من الزمن الأبدي. ولكن الإنسان، وعبر تاريخه، قلّما تمكن من استبصارات كهذه؛ فلقد اثبت هذا الكائن من خلال تاريخه، وبما لا يدع مجالاً للشك، بأن لديه نزعة للتأله والسيطرة. والحق أنه لو كانت لهذا الكائن صورة واضحة عن الطابع العرَضي لوجوده ومقدار الضرر الذي ينجم عن مشاريعه وأفكاره، لكان قد فقد الكثير من حماسه، و لربما كان قد دفعه ذلك إلى وضع كل أسلحته والتخلي عن كل خططه التافهة.

 بالنسبة لي، لا يكون الإنسان خيِراً إلا إذا أحجم عن كل فعل. بمجرد ما يشرع هذا الكائن في التصرف تبدأ تروس المشاكل في الدوران ويحدث الخراب. إن مشكلة الإنسان مع الوجود تكمن فيما يميزه: حريته. فكل الحيوانات، وباعتبارها كائنات لا تتحرك إلا وفق إملاءات الطبيعة، تعيش في انسجام تام مع وسطها؛ وحده الإنسان يبدو بأن الأوضاع تستعصي عليه، و يبدو أيضاً بأنه يبحث عن نمط حضاري و وجودي لا قِبَلَ للطبيعة به. والحق أن جذور كل مشاكل الإنسان تعود إلى شيء واحد: وهو كون الإنسان كائناً غير متساوق. إنه حيوان حر، أي خليط ضار من الاندفاعات البهيمية و الميول الإلهية.

 من وجهة نظري لا يكون الشيء فعالاَ وذا قيمة إلا بقدر ما يؤدي إلى السعادة. وفي ما يخص الحرية، فهي بالضبط ما يؤدي إلى شقاء الإنسان وبؤسه. فهذا الكائن لم يكن مسالماً إلا في العصور التي كان فيها مثال الحرية مثالاً مغموراً أو شبه منعدم؛ فالحرية إمكان وجودي لا يتلاءم و الاختلالات النفسية للإنسان. إنها هاوية لا قِبَلَ له بها. وإذن من الأفضل له أن يتراجع وأن يكف بقدر ما يستطيع عن النظر إلى نفسه ككائن يعيش لأجل الحرية.

 لذلك اقترح فلسفة اللافعل، ولكن ماذا يعرف معاصرونا عن هذه الفلسفة التي تحثنا على التعلم من الماء، أي أن نذعن لجغرافية الوجود و ننساب بين الأشياء في رقة وهدوء؟!، ومن أين لنا أن نفهم فلسفة كهذه ونحن نعيش في "حضارة" ترتكز كليةً على عبادة الجهد والعمل والديناميكية وتمجيد الحركة والتغيير؟!، وفي الواقع، مهما اختلفت تصوراتنا بخصوص الإنسان، و سواء كنا نؤمن بأنه ملاك ساقط أو قرد تخلَّص للتو من فروته وزغبه، فإن ما هو يقيني وأكيد هو أن هذا الكائن متورط في مغامرة مجهولة العواقب؛ وبأنه عوضاً عن أن يموت -على غرار أسلافه الأولين- موتاً هادئاً على سريره، سيموت في يوم ممزقاً نفسه في حادثة ما.